مأرب.. تأريخ اليمن ومخطوطه القديم، شواهد لا تزال قائمة تطل على الحاضر من أعماق التأريخ: "معبد الشمس"، "عرش بلقيس" ومعالم سد هدّهُ "فأر"، فطمر حضارة وفرّق "أيدي سبأ".
بعد قرون طويلة من الضياع، بدأت مأرب تستعيد ذاكرة مجدها بوسائل عصريّة، وهي الآن مخزون النفط والغاز، ومحطة الكهرباء. لكن لمأرب فئرانها في كل زمان؛ مسلحون يقرضون أنابيب النفط، وخطوط الكهرباء، بشغف الفأر الأول في إحداث الخراب. يعترض بعض مشائخ القبائل على تسمية هؤلاء المخربين بالقبليين؛ كونهم "مقطوعين.. تمردوا على القبيلة وأعرافها".
توجهت، الثلاثاء قبل الماضي، إلى مأرب لإعداد تقرير صحفي عن الأوضاع الجارية في المحافظة، وسط أنباء عن اصطفافات واحتشاد مسلح من قبل الحوثيين الذين يريدون دخول المحافظة، وقبليين يرفضون دخول الحوثي بقوة السلاح.
منذ البداية، قررت لقاء الشيخ محسن بن علي بن معيلي، شيخ مشائخ "عبيدة" (تضم 8 قبائل)، لما أعرفه عن مكانة يحظى بها الرجل لدى قبائل المحافظة عامة، إضافة إلى ما لديه من خبرة، وإمكانية امتلاك رؤية واضحة لما يجري. ولعله لا يُتفق في مأرب على شيء كما يتفق على الـ"مَرْجَعْ"، كما يسمون بن معيلي؛ في إشارة إلى أن مشائخ القبائل يرجعون إليه في الخلافات الكبيرة.
عصر الأربعاء الماضي، وصلت منزل الشيخ محسن بن معيلي، في "المكاريب"، التي يعتقد أهاليها أنها تستمد هذا الاسم من مكاربة "سبأ" (800-610 قبل الميلاد). و"مكاريب" آل معيلي (نحو 25 كيلومترا جنوب شرق مركز المحافظة)، تتبع مديرية الوادي، أكبر مديريات مأرب مساحة. وفي نطاقها تقع مصفاة صافر، ومحطة الكهرباء الغازية، ويمتد عبرها أنبوب النفط، وأبراج الكهرباء، لعشرات الكيلومترات. كما أن "العرقين" و"الدماشقة"، وهما -كما تبين الأخبار- من أكثر المناطق ارتباطا بعمليات الاعتداء على أبراج الكهرباء وأنبوب النفط، تقعان في نطاق هذه المديرية.
كان أكثر من شخص قد نبهني إلى أن الشيخ محسن يرفض المقابلات الصحفية، كما أكدوا لي أنني سأعود دون الحصول على أي تصريح، أو حتى التقاط صورة للشيخ الذي لا يحب الظهور.
تبين أن بن معيلي يرفض اللقاءات الصحفية صوناً لكلمته من "التحريف" أو "المبالغة"، بحسب أحد أبنائه. كما تبين أن الرجل يتحفظ على أخذ صور له كموقف من التهافت على ظهور أجوف.
فتح شاب بوابة السور ورافقني إلى الداخل: مجلس منعزل إلى اليمين أمامه باحة كبيرة مفروشة بالحصى، تنتهي بجدار يفصلها عن بقية مباني المنزل. أشار لي الشاب نحو مجلس المقيل، وجلس حيث كان وآخرون يستندون إلى أحد جدران الباحة.
ألقيت التحية، وجاء الرد بنبرة مستغربة تجاه صاحب البنطلون الذي قطع انسجام المقيل وأحدث فوضى في لوحة الـ"زنان" المرتصة. كان 2 من أبناء الشيخ محسن بن معيلي، عبد الله، وذياب، وكيل مساعد محافظة مأرب، يجلسان مع مجموعة من الأهالي الذين حضر بعضهم لمناقشة خلافات.
كان الشيخ متعباً في الداخل. "خزن وارتاح، وان شاء الله خير"؛ قال ذياب، لكنه في المغرب دخل المنزل لإخبار والده، وعاد إليّ باعتذار، مبدياً استعداده للتعاون معي. وافقه الرأي أخوه عبد الله، واجتهد آخرون في شرح مدى صعوبة مقابلة الشيخ، كونه "تعبان وقد اعتزل، وما عاد يقابل حتى المشايخ". و"حتى صوره ذي موجودة يأخذونها وهو ما يدري". لكني أخبرت ذياب أنني وصلت من صنعاء للقاء الشيخ محسن، وأن الناس بحاجة إلى معرفة رأيه وتقييمه للوضع الراهن في المحافظة. دخل ثانية إلى والده، وأعاد الكرّة باعتذار آخر.
طال نقاشنا هذه المرة، وظهر في طرح ذياب ملامح صورة سيئة للصحفيين الذين شارك بعضهم في رسمها؛ أحدهم أبدى لذياب استعداده في امتداح أو مهاجمة من يشاء. ظننت لحظتها أن الرجل ساهم في اعتذار والده، بسبب صورة الصحفيين في ذهنه. احتد نقاشنا نوعا ما، وكنت كما لو أني أدفع الاتهامات الضمنية، وأنسف الصورة المشوهة عن الصحفيين. مرة ثالثة، وافق ذياب على القيام بمحاولة أخيرة، وهو يؤكد لي: "ما قد راجعت أبي 3 مرات في موضوع"! غير أنه عاد هذه المرة بموعد: "غدا بعد الظهر".
في الصباح غادرت منزل بن معيلي راجلا نحو 4 كيلومترات، بضعة منازل ومزارع مترامية على صحراء مستوية وممتدة يُخال أن السماء تبدأ من أطرافها.
مرت بجانبي عدة سيارات أثارت علي الغبار ولم تتوقف. وصلت سوق "محطة بن معيلي": مجموعة محلات تجارية، وسوق قات، تُسمى بمحطة محروقات أنشأها أحد أقرباء الشيخ محسن، وتسببت في تكوّن هذا السوق على طريق مأرب - صافر.
محلات هواتف، بقالات، وبضعة مطاعم وبوفيات، معظم شاغليها من أبناء محافظة إب. طابور سيارات بلا أرقام، أصحابها يزحمون سوق القات بأسلحتهم. كان لأحدهم هيئة لافتة بعمر جاوز الستين ولحية وخطها الشيب. كان يحمل "جرملا" طويلا، ويحتزم "محزقا" معبأ بالرصاص. بدا تحفة أثرية أكثر منه قبلي يحمل سلاحاً. أردت تصويره وطلبت موافقته؛ غير أنه اندفع يهدد ويتوعد بغضب متصاعد. ضحك باعة القات، واكتفى المسلحون بتلفّت عابر. أردت أن أستعرض أمام الباعة مَلَكةً -لم أحظ بها يوماً- في تذليل الغاضبين؛ أخبرت الرجل أنه كان بإمكانه أن يرفض فحسب. لكنه واصل تهديده، وتواصل ضحك الباعة وتلفّت المسلحين.
طفت بسوق "محطة بن معيلي"، وتحدثت إلى عدد من أبناء المنطقة وأصحاب المحال. في الواحدة بعد الظهر، استأجرت سيارة عائداً إلى منزل بن معيلي، حيث كان موعد المقابلة؛ غير أن الشيخ كان متعباً وواصل النوم حتى العشاء.
جلسنا للمقيل: بعض أهالي القرية، و"واصلين" بمشاغلهم، وإلى جانب ذياب، وعبد الله، حضر 2 آخران من أبناء الشيخ؛ ناجي، وعبد الهادي.
"المَرْجَعْ" بن معيلي
في الثامنة مساء، دخل ذياب إلى المنزل وعاد ليدعوني، وأخاه عبد الله، للقاء والده. من باب في جدار الباحة، أمام المجلس، ولجنا إلى باحة أخرى تلتف حولها مباني المنزل. إلى اليمين خيمة مفروشة ملتصقة بمجلس آخر، دخلنا إليه من وسط الخيمة. ظهر بن معيلي أكثر تعباً مما تصورت. كان نجله عبد الله قد أخبرني أنه في عمر الـ 78، لكنه بدا لي أكبر من ذلك. بادلني التحية بصوت متهدج ومجهد؛ حتى أنني ترددت بشأن أسئلة المقابلة، وهممت بتوديعه. بعد لحظة ارتباك، جلست أمامه، وبدأت بطرح الأسئلة؛ ليرد بن معيلي ببضعة كلمات ينتقيها ببطء ودقة، ثم يصمت مطمئناً إلى أنه قال ما يكفي.
طلبت تقييمه لما يجري في مأرب، وسألته عن موقفه تجاه الاتفاق الذي طُرح، مؤخراً، بين "أنصار الله" الحوثيين، من جهة، وقبائل "عبيدة" و"الأشراف"، من جهة أخرى. يلزم هذا الاتفاق مشائخ "عبيدة" و"الأشراف" بتأمين الطريق للحوثيين "كغيرهم من أبناء الشعب"، وحماية خطوط الكهرباء وأنبوب النفط، أو دخول الحوثيين للقيام بهذه المهام. وفي المقابل، التزم الحوثيون بـ"الضغط على الدولة لتنفيذ مطالب أبناء مأرب".
وطبقا لأحد مشائخ "الأشراف"، فقد طرح هذا الاتفاق مبارك المشن الزايدي، مسؤول الحوثيين في مأرب، وسلمه إلى الشيخ حمد بن جلال، شيخ "آل جلال" في "عبيدة". وبعد أن وقعه الحوثيون، وقع هذا الاتفاق الشيخ بن جلال وعدد من مشائخ "عبيدة" و"الأشراف".
بلغة مقتضبة، تحدث بن معيلي عن اختلاف مواقف القبائل تجاه الاتفاق الذي لم يوافق عليه، وتجاه توجه الحوثي لدخول المحافظة. لا يذكر بن معيلي أسماء، ولا يظهر في نبرته مدى اختلافه مع المواقف المناقضة. وبعقلية "المَرْجَعْ"، يحاول بن معيلي ردم الشرخ القبلي لا توسيعه؛ فهو لا يحصر "الطرف الآخر" في زاوية الخصومة؛ وإنما يتحدث بعموم كما لو أنه يضع قوانين الأمور ويخاطب الجميع بالحكمة.
لم يوافق بن معيلي على اتفاق "أنصار الله" مع "عبيدة" و"الأشراف"، ويرى أن "كثير من القبايل ما وافقوا عليه" كونه عرضة للخرق: "يمكن أي واحد يتسبب في خرق الاتفاق وتحدث مشاكل".
أما عن توجه الحوثي لدخول المحافظة، فيرى بن معيلي أن "الحوثي لو وقف في صنعاء كان يمكن في خير للبلاد.. لأنو في قبايل كثير ما هي راضية يدخل مارب بالسلاح". لكن بن معيلي يدرك أن هناك آخرين متفقون مع الحوثي، وهؤلاء بحسب توصيفه: "يتواصلون معه، يدورون للعيشة"؛ في إشارة إلى أن علاقة هؤلاء القبليين بالحوثي قائمة على مصالح مادية.
وفيما يبقى موقف الدولة غامضاً تجاه صراع محتمل في مأرب تظهر بوادره في تحشيد حوثي، واحتشاد قبائل تعارض دخوله المحافظة بمسلحيه؛ يرى بن معيلي أنه إذا لم تتدخل الدولة "ستحدث مشاكل ما هي في مصلحة الناس".
أما ما يتعلق بأعمال الاعتداءات على أبراج الكهرباء، وأنبوب النفط، فيتهم بن معيلي القبائل بأنها "مقصرة في منع المخربين" الذين قال إنهم يدّعون "مطالب ما لهم فيها حق". أبديت استغرابي تجاه اتهامه للقبيلة وهو شيخ مشائخ "عبيدة"، فأوضح على طريقته في قول الحكمة: "كثروا المشايخ.. قد مشايخ الدولة كثير". كان يضغط على ياء "كثِير" بسخرية ومرارة. يؤكد الرجل أن "القبْيَلة" "ما عادها مثلما كانت". تذكرت "زاملا" قديما لبن معيلي نعى به القبيلة منذ سنوات:
يا نقم وين عاد القبْيَلة توجد
وين عهد الوفا واسلاف محمودة
غيروا وجهها الصافي بوجه اسود
واجدبت الارض ذي بالخير معهودة
اشتهر الشيخ محسن بن معيلي في حل الخلافات؛ حتى أن روايات الأهالي عنه تتضمن الطرافة أيضاً. من السائد هنا أن نقاش أي خلاف يبدأ بأن يأمر الشيخ المُحَكّم أطراف القضية والحاضرين بالصلاة على النبي: "صلوا على النبي"، وهذه تعد فاتحة للخوض في نقاش الخلاف بين الأطراف. ذات قضية كان أطرافها ينتظرون الشيخ محسن في مجلس مقيل، دخل أحد الواصلين وخاطب من في المجلس بالقول: "صلوا على النبي"، وعندها صرخ أحد الحاضرين قائلا: "لا لا.. عاد محسن ما جاء".
لكنّ شيخ "عبيدة" أتعبه أصحابه كما قال في "زامل قديم":
من عيا الأصحاب يا ما بحالي
ليتنا جمّال والا بتول
إن دعيته قال مالك ومالي
وان تركته ما عرف للحلول
"المَرْجَعْ" محسن بن معيلي هو الشيخ الوحيد في مأرب لا يتسلم راتبا من أي جهة خارجية، بحسب مصادر قبلية موثوقة. لبن معيلي دور ريادي في ثورة سبتمبر، وهو بحق مسيرة نضال على مستوى القبيلة والدولة.
"مشائخ 96"
من يسميهم بن معيلي بـ"مشائخ الدولة" يسميهم آخرون بـ"مشائخ 96". لم أجد تفسيراً لارتباط التسمية بعام 1996 بالتحديد؛ لكن هذه التسمية تشير إلى "مشائخ جدد فرختهم الدولة لمحاربة المشائخ الأصليين". ويرى هؤلاء أن القبيلة انسلخت، بفعل "مشائخ 96"، عن أعرافها وتخلت عن "نصرة المظلوم ومحاربة السفهاء"، فيما بقيت متمسكة بالسلاح تطالب بالامتيازات. ويشيرون إلى أن المحصلة كانت دولة مهترئة وقبائل ممسوخة.
تواجد الحوثيين
الواقع أن غالبية قبائل مأرب لا يمكن تصنيفها وفق اصطفافات ثابتة؛ إذ تبقى مواقف الكثير غامضة، وأخرى يصعب تحديد مدى وقوفها مع الطرف الذي تحسب عليه، مع الأخذ بالاعتبار أنه لا يمكن التعامل مع القبائل كوحدة واحدة. ففي كل قبيلة مواقف متباينة ومتناقضة أحيانا، بفعل الحزبية، أو نزاعات داخل القبيلة ذاتها، أو ارتباطات قائمة على مصالح مادية. يؤكد ذلك عدد من أبناء هذه القبائل.
تختلف طبيعة تواجد جماعة الحوثي في مأرب من مديرية إلى أخرى؛ إذ يسيطر مسلحو الجماعة على مديريات "مجزر"، "رغوان"، و"مدغل"، الواقعة شمال غرب المحافظة، والتي تقطنها قبائل الجدعان. كما يسيطر مسلحو الجماعة على مديرية "حريب القراميش" الواقعة غرب المحافظة، والواقعة بين مديريتي "نهم" و"الطيال"، التابعتين لمحافظة صنعاء. ويتواجد مسلحو الحوثي دون سيطرة في مديريتي "بدبدة" و"صرواح"، غرب المحافظة، واللتين يقطنهما، إضافة إلى "حريب القراميش"، قبائل "جهم" وغيرها من "بني جبر".
ولا تزال مديرية "جبل مراد"، و6 مديريات مجاورة لها، جنوب المحافظة، تحت الاستقطاب. وبحسب مصادر قبلية، فإن وفوداً قبلية من هذه المديريات تصل صعدة تباعاً للقاء قائد جماعة الحوثي، ضمن عملية استقطاب متواصلة.
في مديريتي "الوادي" و"المدينة"، اللتين يخصهما اتفاق "أنصار الله" مع "عبيدة" و"الأشراف"، المذكور سابقاً، لا يظهر نشاط جماعة الحوثي، ولم ألحظ فيهما شعارات "الصرخة" طيلة بقائي هناك. "الوادي" تقطنها قبائل "عبيدة"، ويقطن "الأشراف" مديرية "المدينة" (غالبية سكان مركز المديرية -وهو مركز المحافظة أيضاً- من أبناء محافظات أخرى، أبرزها تعز وإب).
وقع الاتفاق مع الحوثيين عدد من المشائخ في "عبيدة" و"الأشراف"، وامتنع آخرون (في كل قبيلة أكثر من شيخ ويصعب تقدير الموافقين من المعارضين دون حصر على مستوى الأفراد). غير أنه، وبناء على تقييم مصادر قبلية محايدة، فإن غالبية "عبيدة" لم يوافقوا على هذا الاتفاق؛ فيما وافق عليه غالبية "الأشراف". وإذ يصف البعض من وقعوا على هذا الاتفاق بالـ"متعاونين مع الحوثي"، يراهم آخرون أقدموا على خطوة "ذكية" لتجنيب المحافظة مخاطر المواجهات.
يرى عدد من الوجهاء أن الحوثي لن يستخدم القوة لدخول مأرب (مديريتي "الوادي" و"المدينة" خاصة، إضافة إلى "جبل مراد" والمديريات المجاورة لها). لكنه، بحسب هؤلاء، يحشد مسلحيه للضغط على القبائل من أجل تمرير اتفاقات تؤدي في محصلتها، إلى جانب الاستقطابات الجارية، إلى استكمال سيطرته على المحافظة.
"خذ كلام الشيبة"
التقيت الشيخ محمد عبد العزيز الأمير، أحد مشائخ "الأشراف". "الشريف محمد"، كما يسميه الأهالي، من أبرز مشائخ المحافظة، ومشهود له بضبط المخالفين من أصحابه "آل الأمير".
بحسب الموعد، كان "الشريف محمد" في استقبالي، صباح السبت قبل الماضي، بمنزله على طريق سد مأرب، جنوب المدينة ببضعة كيلومترات. انتقلنا من مجلس خارجي إلى آخر في الداخل لإجراء المقابلة بمعزل عن نقاش عدد من الأهالي ومرافقيه.
الأمير من المشائخ الذين وقعوا الاتفاق مع الحوثي لـ"تجنيب المدينة والوادي ما حصل في مناطق أخرى.. والاتفاق هو من أجل حماية الكهرباء وأنبوب النفط". ولتأكيد ما قاله بشأن تجنيب المديريتين الصراع، استدعى "الشريف محمد" اتفاقات "حصلت بين أنصار الله وقبائل همدان، في مديريتي الخلق والحزم بمحافظة الجوف، وإلى الآن لا يدخلها أنصار الله إلا كمواطنين".
أما سيطرة الحوثيين على مديريات "مجزر" و"رغوان" و"مدغل" في مأرب، ونصب نقاط تابعة لهم فيها، فلأنهم "دخلوا هذه المديريات بعد حرب".
يؤكد "الشريف محمد": "أنصار الله لا يريدون دخول مأرب بقوة السلاح.. نحن جلسنا معهم وكانوا متفهمين لوضع المديريتين".
يضيف: "جرى الاتفاق مع أنصار الله على حماية المنشآت وتأمين الطريق. وأؤكد لك أن الدولة إذا كانت صادقة بالقيام بما عليها، وصدقنا نحن، فلن يحدث شيء، وهذا ليس لمصلحة أبناء المدينة والوادي فحسب بل لمصلحة اليمن".
أما المسلحون المناهضون لدخول الحوثي مأرب بالسلاح، والذين يحتشدون في وادي "نخلا" و"السحيل" (نحو 25 كيلومترا شمال شرق المحافظة، على طريق مأرب – صنعاء)، فيرى الشريف محمد أن جميعهم "تابعين الإصلاح والإخوان المسلمين"، والذين دعاهم إلى أن "يعوا أن أنصار الله قوة على الواقع، وأن يقبلوا الشراكة كما قبلنا نحن في حزب المؤتمر بعد توقيع السلم والشراكة".
لا ينفي "الشريف محمد" أن هناك معارضين آخرين للاتفاق الموقع مع الحوثين؛ لكنه يقول إن هؤلاء "متخوفين فقط، لأن الناس دائما يتخوفوا من أي شي جديد".
وفيما يُعلن الرجل انتماءه لحزب المؤتمر؛ يعتقد أن "الأحزاب ما وجدت إلا لتقويض القبائل"، التي قال إنها "عادت إلى رشدها وتركت الحزبية بحسب ما عندها من أسلاف وأعراف".
أخبرته بوجهة نظر الشيخ محسن بن معيلي تجاه الاتفاق الموقع مع الحوثيين، فسألني باهتمام عما قاله الشيخ محسن، وأضاف: "خذ كلام الشيبة [يقصد بن معيلي] ورَوِّح صنعاء لأن الكل يمشي بعده.. ومهما كان فهو له احترامه".
يتفق "الشريف محمد" مع بن معيلي على أن القبائل مقصرة في منع المخربين: "يقولون: المخرب مقطوع ما هو منا.. ولا جت الدولة قاموا عليها كلهم".
وفي تعليقه على موضوع تعويضات تعطيها الدولة لـ"أصحاب مطالب" و"مخربين ليس لهم مطالب حقيقية"، قال الرجل: "أصحابنا يزعلوا منا ليش نمنعهم من الاعتداء على المصالح، يقولوا لنا: الناس قطعوا الكهرب والبيب وحصلوا على وظائف وتعويضات، وانتم تمنعونا".
تعد التعويضات، التي يصفها "الشريف محمد" بـ"العشوائية"، جزءا من المشكلة. في 2012، صرفت السلطة المركزية نحو مليار ريال كتعويضات لـ"أصحاب مطالب"؛ ما دفع بآخرين، حسب كثير من الاهالي، إلى تنفيذ اعتداءات على أبراج الكهرباء وأنبوب النفط، مجهزين قوائم مطالب بعضها حقيقية، وبعضها غير حقيقية. قال "الشريف محمد" إنه كان قدم مقترحا للسلطة المحلية بتشكيل لجنة من مشائخ "عبيدة" و"الأشراف" والسلطة المحلية لحصر المطالب ومتابعة تنفيذ إجراءات التعويض؛ غير أن هذا لم يتم.
سبق هذا المبلغ تعويضات متفرقة، طيلة عدة سنوات ماضية، ومبالغ فديات لخاطفي أجانب. أحد المسلحين، بحسب عدد من أبناء "عبيدة"، "قتل عسكر وحبسوه، واخرجوه، ورجع خطف بلجيكية، ودفعوا له 5 مليون وسيارة جيب ورتبة عسكرية". ويلخّص هؤلاء تعليقهم على تهاون الدولة وقيامها بدفع تعويضات للمخربين بمثل يتردد في الأوساط القبلية منذ سنوات: "افقع البيب واركب جيب".
"قبيلي سنحان وسيد مران"
يرى عدد من المشائخ، فضلوا عدم ذكر أسمائهم، أن رابط القبيلة لا يزال "أقوى من الحزبية والمماحكات السياسية". يقول هؤلاء إن "مشائخ القبائل، حتى الذين وقعوا الاتفاق مع الحوثيين، لن يسمحوا للحوثي بدخول المحافظة بقوة السلاح". قال أحدهم: "قبائل مأرب لن يقبلوا يمشي قبيلي سنحان ويجي سيد مران".
يؤكد هؤلاء على أن القبائل "ليست مع أي طرف، لكنها ما تقبل يدخل المسلحين بلادها.. القبايل يقبلوا بالدولة حتى وان ما هي الا اسم دولة". يتفق مع هذا الطرح عبد العزيز محسن السلامي، أحد أبناء المحافظة.
يوضح السلامي، الذي عمل مع منظمات عالمية رئيسا لفرق ميدانية أجرت مسوحات اجتماعية وقدمت خدمات في مناطق المحافظة، أن "مشائخ قبائل مأرب، بما فيهم من يفاوضون الحوثي، حريصون على حفظ ماء الوجه، ولن يسمحوا له بدخول المحافظة بالسلاح، لأن أبناء مأرب يرفضون الحوثي بدوافع مذهبية على وجه الأساس، ومأرب ليست في نطاق الجغرافيا المذهبية للحوثي". ويرجع السلامي قابلية المجتمع للانجرار وراء الأطراف إلى "تقصير الدولة". أشار إلى أنه، بحكم عمله، وجد "مجتمعات ليس لهم أي ارتباط بالدولة عايشين على رعي أغنامهم".
"الوضع مطمئن والقبائل عاهدوا الله"
تواصلت هاتفيا مع رئيس التجمع اليمني للإصلاح بالمحافظة، مبخوت بن عبود، بعد أن ذهبت للبحث عنه في مقر حزبه، وأعطاني أحدهم هاتف نجله. (لا يوجد في المحافظة مكتب تابع للحوثي كما لا يظهر نشاطهم ولم ألحظ طيلة وجودي في المحافظة أي شعار).
لم ألتق بن عبود، كونه انشغل بـ"أمر طارئ" في الموعد الذي كان محددا للقاء، وكان صبيحة مغادرتي المحافظة، فاكتفينا بالتواصل هاتفياً. طلب مني إرسال الأسئلة عبر "الواتس اب"، وأرسل لي رده:
"الوضع في المحافظة رغم ما يردده الإعلام الداخلي والخارجي إلا أنه مطمئن، والقبائل عاهدوا الله وعاهدوا بعضهم البعض بحماية المحافظة مهما كانت التكاليف، وعندهم ولله الحمد القدرة للدفاع بل لهزيمة من تسول له نفسه غزو المحافظة".
ويرى بن عبود أن "الاصطفافات القائمة في المحافظة قائمة على أساس الدفاع عن العرض والأرض والشرف والكرامة، وكل القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية والسلطة المحلية والجيش والأمن في المحافظة الكل مجمع على عدم إحداث أي فوضى أو تهديد للمحافظة وفي المحافظة".
الأسبوع الماضي، وصلت إلى مأرب لجنة "الوفاق والمصالحة" البرلمانية، برئاسة الشيخ علي عبد ربه القاضي، عضو مجلس النواب عن إحدى دوائر مأرب الثلاث. التقت هذه اللجنة قيادة السلطة المحلية وعددا من مشائخ المحافظة، ورعت توقيع وثيقة بين الدولة والقبائل نصت على ضمان حماية المنشآت وإخراج الوافدين من خارج المحافظة ضمن التحشيد المسلح. يتوقع بن عبود أن يقرر الحوثي الموافقة على هذه الوثيقة "التي وقعت بين الدولة والقبائل بواسطة لجنة الوفاق والمصالحة، المشكلة من مجلس النواب.. فالوثيقة أوفت بمطالب الكل في الحفاظ على المنشآت الحيوية، وإزالة بؤر التوتر والحشود الآتية من خارج المحافظة".
"داعي القبْيَلة"
يحتشد مسلحو القبائل، المناهضون للحوثي، في منطقة "السحيل" على طريق مأرب - صنعاء. ويحتشد مسلحو الحوثي في عدة مراكز تابعة لهم بالمديريات التي يسيطرون عليها. زرت "السحيل"، وطلبت، عبر مقربين من "الحوثيين"، الموافقة على زيارة أماكن تجمعاتهم؛ غير أنهم أخبروني أنهم لا يسمحون بذلك. كما طلبت مقابلة مسؤولهم في مأرب، مبارك المشن الزايدي، وكان "مسافر في مهمة"، حسب ردهم.
عصر الاثنين الماضي، نظمت قبائل "جهم"، لقاء قبليا في منطقة "السحيل"، مناهضة لـ"المليشيات".. عشرات السيارات ومئات المسلحين بأسلحة خفيفة ومتوسطة، بينها الـ"آر بي جي"، يشكلون نصف دائرة متجهة إلى حيث يقف المتحدث جوار سيارة تحمل مكبرا للصوت.
بدأ مقدم اللقاء، الذي يعتقد أن "داعي القبيلة ما عاد شي أكبر منه"، بـ"الأكبر سنا: الشيخ محمد بن محمد الزايدي" (ابن قبيلة مسؤول الحوثيين، مبارك الزايدي). نهض الزايدي، الذي بدا في عقده السابع، من حيث يتكئ إلى إحدى السيارات الواقفة، يحفه مرافقوه، وبدأ مخاطباً "جهم": "لا تستمعوا للأحزاب ذي ما منها إلا فرّقت الناس". أضاف: "جهم وغيرهم من القبايل يرفضون المليشيات من أي طرف.. ومأرب لمن جاء عن طريق الدولة".
قال إن القبائل تتحمل حماية المحافظة لأن "الجيش ما عد شي.. تفكك.. منه مع علي محسن وشلته، ومنه مع النظام السابق... ولم يبق لليمن يحفظها إلا الله وعبد ربه منصور هادي".
تحدث آخرون عن "ضرورة قيام القبائل بدورها في حماية المحافظة والأخذ بيد المخربين"، الذين يتهمونهم بالتعاون مع الحوثي والتبرير له لدخول المحافظة: "المخرب يخرب علينا من أجل يقولوا ما أمنتوا بلادكم". تذكرت ما قاله أحد المشائخ حول تحشيد الحوثي: "هذا سيجعل القبائل تخاف وتكون أكثر جدية في تنفيذ الاتفاق وضبط المخربين".
أثناء لقاء "جهم"، وصل "ضيوف"، حسب ما كان المجتمعون ينبهون بعضهم. نحو 15 سيارة محملة بالرشاشات الثقيلة، وعشرات المسلحين نزلوا من السيارات وشكلوا صفا، قبل وصولهم إلى المكان، وبدؤوا بترديد زامل قبلي وهم يسيرون تتبعهم سياراتهم ببطء متناسق مع خطوهم.
كان أبناء "جهم" قد نهضوا مشكلين نصف دائرة سيغلقها "الضيوف"، لتبدأ التحايا بقوالبها الجاهزة، ويتبادل الطرفان الأسئلة والردود ذاتها.
كان الواصلون من أبناء قبائل "عبيدة"، بينهم الشيخ "عبد الله غريب". أخذ حديثهم عن الوضع دائرة شبيهة بتحاياهم. تقريبا، تحدث الجميع عن الرئيس هادي معولاً عليه، ومبرراً ضعفه. تذكرت ما قاله لي أحد أبناء "عبيدة" عن "هادي". كان قد لفت انتباهي أن كثيراً ممن التقيتهم من أبناء القبيلة يقضون ساعات طويلة في تصفح المواقع الإخبارية على هواتفهم، وردّ أحدهم على ملاحظتي تجاه هذا الاهتمام: "ننتظر عبد ربه يسوي فيها زي النمر كذا والا"؛ في إشارة إلى توقعهم بأن يتخذ رئيس الجمهورية خطوات مهمة، خاصة فيما يتعلق بتجنيب مأرب مخاطر المواجهات مع الحوثيين. وفي هذا الشأن، يعول الكثير من الأهالي على وزير الدفاع، اللواء محمود الصبيحي، مستحضرين "شجاعته" و"نشاطه" في قيادة المنطقة العسكرية الرابعة.
يجمع من التقيتهم من مشائخ وأبناء مأرب على أن الدولة لم تقم بواجبها تجاه المحافظة. يرى الشيخ محسن بن معيلي أن الدولة "مع مشاغلها هذي ما عاد تهتم بالناس كثير". ويرى الشريف محمد الأمير أن "أداء الدولة لا يزال قاصرا"، فيما يذهب آخرون إلى اتهام "المسؤولين في صنعاء بتحريك المخربين وإثارة المشاكل". ويتهمون "قادة المعسكرات المكلفة بحماية المنشآت بأخذ المبالغ ذي تدفعها لهم الشركات، وأحيانا يكون الاعتداء قريب منهم وما يتحركوا". كما يشملون في اتهامهم "شركات الصيانة" التي يقولون إنها "تدفع للمخربين عمولات".
قبل مغادرتي المدينة، وأنا التقط صورا في "شارع" المحافظة، طلب مني طفل لم يبلغ العاشرة تصويره. كان يجلس على حافة صندوق سيارة واقفة بجواري وهو يحتزم "جرمندية" معبأة بخزنات الذخيرة ويسند الكلاشنكوف إلى حضنه. ابتسم للكاميرا التي اعتقدها تلتقطه معجبة بـ"رجولة" يتحلى بها رغم صغره. يتعجل الصبية أعمارهم إلى السلاح والدخول في دائرة صراع قبلي لا يتوقف، كأن أمهاتهم نذرنهم للثأر، وكأنهم حريصون على الوفاء.
نقلا عن صحيفة الشارع اليمنية.