يحاول الدكتور أحمد محمد الدغشي تفكيك التعقيد في تركيبة الحركة السلفية في اليمن، والتداخل في بِناها ومفاصلها، ورصد مدارسها الفكرية ومرجعياتها العقائدية وتحالفاتها السياسية، وأنماط العلاقات غير المستقرة بين قياداتها حيناً، وبين أفرادها -بمختلف مستوياتهم- وبعض تلك القيادات حيناً آخر.
وتأتي أهمية هذا الكتاب «السلفية في اليمن: مدراسها الفكرية ومرجعياتها العقائدية وتحالفاتها السياسية»، الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات، مما تكشفه دراسة الحركة السلفية في اليمن، التي حوت أحد أبرز رؤوسها على طول العالم العربي والإسلامي وعرضهما، وهو الشيخ الراحل مقبل بن هادي الوادعي، مؤسس الحركة السلفية التقليدية المعاصرة في اليمن، من تأثير سلبي أو إيجابي على مجمل الفصائل السلفية وغير السلفية، داخل اليمن وخارجه.
ويغوص الباحث أحمد الدغشي في أعماق واقع السلفية في اليمن، بعد تصاعد حاد في درجات التشظي في صفوفها في السنوات الأخيرة، ويرصد الانقسام وأسبابه ونتائجه في الصف الواحد، بعد تمايز كثير من الصفوف عنه، والمدرسة الواحدة الداخلية بعد تصفية مدارس أخرى اتهمت بتلبسها بالمدرسة السلفية زوراً وبهتاناً، وحيث الرمز «المقدَّس» يُحَطَّم بعد الرمز «المقدَّس» السابق، ويكتشف الكاتب أن ثمة دهاليز وأغواراً في هذه المدرسة تبدو «مقلقة جداً»، وتستحق من ثَمَّ التوقف عندها مليًّا لأخذ العبرة. واعتمد الباحث في جمع المادة العلمية للكتاب على مراقبة الحركة السلفية من الداخل، إذ كان معنيّاً بالآثار والنتائج على نحو عضوي، وليس مجرد راصد خارجي (محايد)، كما حرص على نسبة كل فكرة إلى مصدرها الأصلي، مستنداً إلى المراجع الإلكترونية التي تنسجم مع طبيعة المشكلة محل البحث، خاصة مع الاحتراف اللافت لدى أكثر المدارس السلفية والتقليدية منها بوجه خاص، في التعامل مع الشبكة العنبكوتية، وتقديم أفكارهم وأطاريحهم عبرها أولاً بأول، وتواصل الباحث مع جهات سلفية عدة على مستوى قيادات وأفراد في درجات مختلفة من مواقعها.
لقد سعت الدراسة إلى تقديم واقع السلفية في اليمن كما هو اليوم مع عرض خلفية معرفية له كلما كان ذلك ضروريّاً، وفي حدوده المنطقية، وذلك لتربط واقعه بتاريخه القريب، كما هو بمستقبله. وفي سبيل هذا جاء الكتاب في بابين، كان الأول بعنوان «السلفية التقليدية أو العلمية»، وتضمَّن ثلاثة فصول تناقش نشأة الحركة السلفية في اليمن وأصولها العقدية، موضحاً أن جذورها ترجع إلى المدرسة الأثرية الحنبلية (نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل)، وامتدادها بعد ذلك عبر المدرسة التيمية الحرَّانية (نسبة إلى الإمام أحمد بن تيمية الحرَّاني)، وتبلورت على نحو أكثر وضوحاً وتمايزاً في القرن الثاني عشر الهجري على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب النجدي. كما يرصد المراحل التي مرَّت بها السلفية التقليدية مع الشيخين الوادعي والحجوري، ويبرز تحالفاتهما السياسية الداخلية والخارجية.
أما الباب الثاني فحمل عنوان «السلفية الجديدة»، واشتمل على أربعة فصول، حيث يتناول الفصل الأول جمعية الحكمة الخيرية وتشمل حزب السلم والتنمية، ويعالج الفصل الثاني جمعية الإحسان الخيرية، أما الفصل الثالث فيرصد اتحاد الرشاد اليمني، ويعالج الفصل الرابع حركة النهضة السلفية في الجنوب.
ويخلص الباحث أحمد محمد الدغشي إلى أن الخارطة الكلية للسلفية (السلمية) اليمنية تجلَّت بصورتها الكلية والتفصيلية في مدرستين كبيرتين: المدرسة السلفية العلمية التقليدية (الماضوية)، ورمزها المؤسس الراحل مقبل بن هادي الوادعي، ومن بعده أبوعبدالرحمن يحيى بن علي الحجوري، وأبوالحسن مصطفى بن إسماعيل المأربي (ذو الأصل المصري)، ثم السلفية الجديدة وتتمثل في جمعيتي: الحكمة اليمانية الخيرية، وما تفرَّع عنها من حزب ناشئ جديد يُدعى حزب السلم والتنمية، وكذا جمعية الإحسان الخيرية وما تفرَّع عنها من حزب أضحى ذا حضور لافت في العمل السياسي والدعوي، ويُدعى اتحاد الرشاد اليمني، ولا يمكن إغفال حركة النهضة السلفية في الجنوب التي تعد امتداداً في الأصل لجمعية الإحسان في إطار قرارها المركزي، لهذا فإن السلفية اليوم بمجمل فصائلها تمثل رقماً حقيقيّاً وصعباً في المعادلة الدعوية والفكرية والسياسية والاجتماعية والتربوية اليمنية، وهو ما يعني بالنسبة للكاتب أن هناك واقعاً اجتماعيّاً وفكريّاً وسياسيّاً معقداً ومستقبلاً متشظياً، ولاسيَّما في الفصيل التقليدي منه.
ولا شك أن لهذا الواقع تداعياته على المشهد السياسي والاجتماعي برمته، على المدى القريب والمتوسط والبعيد، خاصة بعد محنة طلبة العلم في دمَّاج بمحافظة صعدة، وتهجيرهم -على أيدي الحوثيين- مع كثير من أبناء دماج ذاتها، وما أفرز ذلك من تداعيات على الدولة ممثَّلة بمؤسساتها العسكرية، التي تشكو بدورها ضعف إمكانياتها في ظل بقاء جزء من ولاء المؤسسة العسكرية لقيادات من النظام الحاكم السابق.