الرئيسية > ثقافة وفنون > عدن اليمنية..مدينة آرثر رامبو.."تحترق"

عدن اليمنية..مدينة آرثر رامبو.."تحترق"

 عدن اليمنية..مدينة آرثر رامبو.."تحترق"

مدينة تتمازج فيها الأحلام والقصص والأشجان ، في مينائها مرَ لورانس وتوماس ادوارد وهنري دو مونفريد والشاعر الفرنسي آرثر رامبو. إنها عدن اليمنية" مدينة رامبو" التي تحرقها اليوم المليشيات المسلحة. ففي هذه المدينة هرَب آرثر رامبو من علاقته مع الشاعر الآخر ومن ظله، أربع سنوات قضاها متنقلا بين تجارة البن والسلاح والدموع.

 

في المراحل الأولى من عمره أثار جدلا كثيراً وإعجابا كبيراً، وبقصائده هزَ صالونات باريس، لكنه مع كل هذا قرر- فجأة- أن يهجر أرض الكتابة ووطن الشعر، ليظل صاحب "العابر بنعال من ريح"، لغزاً يكتب أعذب الشعر ويمتهن أحقر المهن "تجارة السلاح". ففي السنوات العشر الأخيرة التي قضاها الشاعر الفرنسي متنقلا ما بين اليمن وأفريقيا ومصر ، سعى صاحب "فصل في الجحيم" ، أن يكون ثريا ، فحاول جاهدا أن يُصبح تاجراً لا شاعرا.

 

يُجمع الكثيرون على أن حياة رامبو( 1854-1891)، ليست سوى مجموعة من المحطات والموانئ التي تنقل فيها، فهو عادة ما كان يردد عبارته الشهيرة "الحياة دائما في المكان نفسه أمر بائس". أثنى عليه فيكتور هوجو، فقال عنه "طفل شكسبير".

 

منزل رامبو الذي تحل إلى فندق بعدن

 

في صبيحة يوم قائظ من شهر أغسطس /1880م/، وصل الشاعر الفرنسي آرثر رامبو إلى عدن"جنوب اليمن" . ففي هذه المدينة التي كانت يوماً ما أحد الموانئ البريطانية الهامة وعاصمة لجمهورية اشتراكية ذابت عام 1990، أمضى الشاعر الفرنسي جزءاً من حياته تُقدر بنحو 48 شهراً، قضاها متنقلا بين تجارة البن والسلاح والدموع. فأول عمل أوكلته اليه شركة" فياني – مازران- بارديه" كان مملا ويكمن في "مراقبة مجموعة من النساء يقمن بتنقية البُن قبل تصديره إلى مرسيليا"، مقابل اقل من 6 فرنكات يوميا، وهو مبلغ لم يكن يكفي لتسديد حتى مصروفاته اليومية.

 

ففي صباح الـ 7 من أغسطس، رست على ميناء عدن إحدى السفن وعلى متنها عدد من الأوربيين، يتقدمهم الشاعر الفرنسي رامبو. فالمدينة التي كانت يوما ما احدى أهم المستعمرات لإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، أقام رامبو فيها أكثر مما قضاه في باريس ولندن وبرلين ومرسيليا وشارلفيل وقبرص، ومع ذلك لم تكن عدن الجنة التي حلم بها رامبو وورد اسمها في أشعاره. فقد ذهب في كيل الشتائم لها والتذمر منها كثيراً. حيث نجده يخاطب في رسائله المكتوبة لشقيقته ايزابيل التي كانت تقيم في شارلفيل بفرنسا: "أقيم فوق فوهة بركان وفي بلاد لا يوجد بها لا زهرة ولا مكتبة". وهو حُكم وصفه النقاد بأنه كان قاسيا للمدينة ومناخها الحار الذي لا يمكن لشخص مثل رامبو أن يتحمله كونه قادما من بلاد تسودها البرودة على الدوام.

 

رحلة البحث عن منزل شاعر فرنسا

 

 

"أين منزل رامبو"؟ تساؤل يردده الكثيرون أثناء رحلتهم للبحث عن الشاعر الفرنسي في مدينة عدن اليمنية، بعد 123 عاما من مغادرته لها . لكن بعد مهمة شاقة تجد ضالتك ، فالمنزل الذي كان يوما ما يتخذه مسكناً له صاحب "فصل في الجحيم" ، قد ابتعد كيلو متراً عن البحر ، بعد أن كان يطل عليه مباشرة ، خلال الفترة التي قضاها الشاعر الفرنسي في عدن. وهي الفترة التي امتدت خلال( 1880- 1891)، لكنها على فترات متقطعة بلغت في مجملها 45 شهراً.

 

عمليات ردم متلاحقة تعرض لها البحر فصلته عن منزل رامبو، فلو عاد الأخير إلى البحث عن منزله لما تمكن من الاهتداء إلى الموقع الأصلي للبيت الذي أصبح مزارا للكثيرين اليوم.

 

" كريتر" هي المنطقة التي يقع فيها منزل الشاعر الفرنسي و" كريتر" هو اسم البركان الذي تقع عليه المنطقة بأكملها ، فمفردة "كريتر" تعني فوهة البركان، اعتمادا على ارتفاع درجة الحرارة فيها، وهو مناخ كان مصدر تذمر وشكوى آرثر رامبو نفسه والذي طالما تذمر من مدينة تنام على فوهة بركان في الإشارة إلى عدن. فقد قال في إحدى رسائله إلى شقيقته ايزابيل: "عدن ليست إلا فوهة بركان خامد ومغمورة كليا بالرمال البحرية".

 

في ضيافة رامبو

 

على الرغم من التغييرات الكبيرة التي شهدتها مدينة عدن ، إلا أن منزل رامبو ما يزال شامخا وصامداً حتى وإن تم تحويله إلى فندق وأصبح اسمه"رنبو rainboww، بدلاً عن رامبو ، مع الاستغناء عن الكتابة الفرنسية بالإنجليزية.

 

في هذا المكان بإمكانك أن تحل ضيفا على الشاعر وتزوره في منزله، وإن شئت بإمكانك أن تنام في غرفة رامبو ما شئت وبمقابل زهيد. وإذا ما حالفك الحظ لذلك ، فإنك ستجد تلك الجدران الوردية وأثاثا من الخشب المصبوغ ، متوقعاً دخول رامبو عليك في أي لحظة "ما ضغاً للقات" بعد يوم مضنٍ من العمل قضاه في مراقبة النساء وهنَ يقمنَ بتنقية البن أو سحب طرود الجلود.

 

يقول الدكتور مسعود عمشوش" لم يولد آرثر رامبو في شارلفيل ليقضي سنوات عمره القصير في رتابة حياتها وبرودة بيوتها وحقولها وشوارعها. فحياة رامبو ليست إلا مجموعة من المحطات والموانئ التي لا يمكث فيها، في كثيراً من الأحيان، إلاّ الأيام اللازمة لالتقاط أنفاسه ومواصلة السفر..، لذا عندما وصل رامبو إلى عدن، في 7 أغسطس 1880، كان في حالة يرثى لها. فهو كان قد غادر قبرص في ظروف مأساوية، وكان الصيف في عدن شديد الحرارة. وإذا كان الضابط المتقاعد دوبار قد سارع بتوظيفه في شركة فياني- مازران- بارديه التي كان يدير مكتبها في عدن، فهو في الحقيقة، لم يعطه إلاَّ عملاً ثانويًا ومملاً يكمن في مراقبة مجموعة من النساء يقمن بتنقية البُن قبل تصديره إلى مرسيليا.

 

 

مدينة رامبو تحرقها المليشيات

 

تتضارب العديد من الروايات حول طبيعة علاقة صاحب "المركب السكران" مع سكان مدينة عدن، لكن الكثير منها تُجمع على أن الشاعر الفرنسي، أقام علاقات طيبة مع الناس هنا، وهذا ما يؤكده مجلس العزاء الذي أقامه سكان عدن، بعد علمهم بخبر وفاته. فقد قاموا بتعليق صورة الشاعر الشخصية وسط مجلس العزاء وكتبوا عليها" لا إله إلا الله، إنا لله وإنا اليه راجعون".

 

من هنا يؤكد باحثون على أن علاقة سكان منطقة "كريتر" التي كان يقطنها رامبو، لم تكن نابعة من كونه ذلك الشاعر الكبير الذي هجر الشعر هارباً من ظله، بل كانت علاقة نابعة من عمق إنساني كان يجمع بينهما، حتى وإن كان الرجل قد أدمنَ على هجاء مدينتهم.

 

لكن الوضع اليوم يختلف تماماً، حيث تجد سكان المدينة يفخرون اليوم بذلك الشاب الفرنسي الذي قرر ذات يوم مغادرة موطنه الأصلي ليعيش بينهم، غير مُهتمين بأحكامه وهجائه لمدينتهم. كما أنهم لا يصدقون – حتى يومنا هذا- بان الشاعر الفرنسي قد وصف مدينتهم بأنها "مجرد فوهة بركان". واعتبروا هذا الوصف غير دقيق، كون رامبو أكد للسكان بحتمية عودته للعيش معهم وقضاء ما تبقى من عمره قرب بحر عدن، قبيل مغادرته المدينة متوجهاً إلى فرنسا للعلاج من ورم في الركبة ، حيث تعمد الشاعر ترك الكثير من أغراضه الشخصية في منزله بحي كريتر.

 

رامبو والاسلام

 

 

على الرغم من مرور عقود من الزمن على رحيل الشاعر آرثر رامبو، إلا أن "قضية إسلامه" لا تزال تُثير الكثير من الجدل. فها هو صاحب كتاب "عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين" الدكتور مسعود عمشوش ، يُثير الجدل عن حياة رامبو في عدن ، ويتساءل "هل اسلم رامبو"؟، ثم نجده يتوقع إسلام الشاعر الفرنسي، بسبب تأثره بعادات وتقاليد السكان الذين قضى بينهم أربع سنوات ، معززاً اعتقاده من خلال رفض القسيس إعطاءه القربان المقدس، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة . وهنا يقول الباحث عمشوش "يمكن أن نشير هنا إلى أن القس الذي زار رامبو على فراش الموت، ورفض أن يعطيه القربان المقدس، اعتقادا منه أن رامبو قد اسلم، وذلك بعد أن سمعه يُردد قُبيل موته أثناء هذيانه: الله كريم، الله كريم"

 

أما الكاتب سمير عطا الله، فيقول: إن "رامبو العربي" قد حاول البحث في روحانيات الإسلام..تعلم القرآن ..، غير أن الحياة لم تعطه من نفسها الكثير . وقليلها كان مأساوياً..". وأشار إلى أن السنوات العشر التي قضاها رامبو متنقلا بين اليمن والقاهرة وأفريقيا، حاول خلالها الشاعر الفرنسي أن يكون تاجراً لا شاعراً.

 

عبد ربو !

 

الشاعر والباحث العراقي شوقي عبد الأمير، ينظرون اليه هنا في اليمن، بأنه هو من اكتشف منزل رامبو في عدن عام 1991، حينما كان مديراً للمركز الثقافي اليمني، حيث أقام حينها احتفالاً بهذه المناسبة. ونجد الأمير يُثير قضايا في غاية الأهمية عن حياة رامبو في عدن، لعلى أهمها إشارته إلى أن "رامبو طلب القرآن ومات وهو يُردد عبارة: الله كريم، الله كريم"!!

 

ويلفت إلى أن الشاعر الفرنسي كان أشبه ببركان، استمر ثلاث أو أربع سنوات ثم خمد، لكن حممه استمرت في الاشتعال والإضاءة. وحول علاقة رامبو بالإسلام، يقول الأمير- الذي ترجم عدة رسائل لرامبو- بأن العلاقة بدأت قبل أن يذهب رامبو إلى عدن، فوالده كان ضابطا بالجيش الفرنسي في الجزائر، كما أن هناك إشارات في رسائله ، إلى أنه كانت توجد في منزله بفرنسا نسخة من القرآن، كُتب على هوامشها شروحات وتوضيحات.

 

ويتابع: يكتب رامبو في إحدى الرسائل التي بعثها إلى أخته ايزابيل من اليمن: ابعثي لي بنسخة قرآن الوالد ذات الشروحات" .

 

ويقول الباحث الأمير إلى أنه، عندما نُقل رامبو إلى المستشفى بمرسيليا، كتبت شقيقته بأنها كانت عندما تأتيه بالقس ، كان يرفض بقاءه إلى جانبه. وفي لحظات موته، اضطرت عائلته إلى إحضار القس لتعميده، لكن الأخير خرج من غرفة رامبو، كالمضروب على رأسه، مخاطباً عائلة الشاعر الفرنسي: هذا الشخص لم يكن يسمعني، بل كان يُتمتم بكلمات غريبة، كان يقول"الله كريم، الله كريم".

 

ويؤكد الأمير بأن رامبو غير اسمه في عدن إلى "عبد ربُو". ويستدرك: "أنا لا أهدف من ذلك لتأكيد إسلام رامبو، لكني اذكر حقائق لا أخشى منها أو أخفيها"!.

 

إلى اللقاء

 

في صبيحة 9 مايو 1891، غادر الشاعر الفرنسي عدن، بعد أن عاش تحت سمائها أربع سنوات، ليكون ذلك الوداع الأخير للمدينة، التي كرهها "أولاً"، لكنه في آخر أيام حياته وهو يصارع ورماً في ركبته ناصبها الحب حتى الثمالة، ليقول عنها، بأنها أفضل مكان بالنسبة له في العالم. لكنه لم يف بوعده بالعودة اليها، حيث خطفه الموت، لتبقى أطلاله وذكرياته هنا.

 وكالة أنباء الشعر العربي*