عندما استقيظ طارق احمد يحيى دُهش لوجوده داخل غرفة واسعة ومظلمة، كان يتلفت يميناً ويساراً، ماذا حدث؟ أين أنا؟ في هذا الوقت ينبغي أن أكون في مكان ما على متن طائرة بين صنعاء والجزائر، اقترب من رجل نائم، هزه بخفة ثم قال له: أين نحن ؟ أجابه الرجل باقتضاب لا تخلو من نبرة يأس: اسأل أبو عثمان!
بدأ طارق (30 عاماً) يروي قصته بمرارة، وهو رجل ذو عينين مستديرتين وساذجتين لا يشبه إرهابياً تسلل عبر الحدود ليقف في صفوف المتطرفين. هو شاب جزائري مسكين سرقه سائق تاكس أجرة وعذّبه الحوثيون 19 يوماً في مركز بدر بصنعاء بدعوى انه من طلاب دماج.
يقول طارق لـ"مندب برس": "قدمت من الجزائر لكي أستخرج بعض الوثائق من الخارجية اليمنية للحصول على الجنسية الجزائرية كوني مولود في اليمن لأب يمني وأم جزائرية"، أكملت ما جئت من أجله وقبل موعد إقلاع طائرتي بثمان ساعات حلت الكارثة لقد سرق سائق التاكسي كل أوراقي وجواز سفري حينما ترجلت من سيارته لاشتري كوباً من الشاي.
وطارق أحمد ولد في صنعاء لأب يمني متوفِ وأم جزائرية، عاش في اليمن أقل من عام ثم انتقل إلى الجزائر وعاش فيها إلى جانب أمه 29 عاماً.
قال طارق، بينما كان يأخذ نفساً عميقاً: "الحياة هنا صعبة وشاقة".
لم تكن سرقة أوراق ثبوتية طارق سوى البداية، والأسوأ كان بانتظاره.
يقول طارق: ذهبت مسرعاً إلى احد أقسام الشرطة للإبلاغ عن سرقة جوازي وكل أوراقي، أخبرت أفراد القسم باسم السائق الذي تعرفت عليه من خلال اتصال ورده من مجهول فقال له معك محمد الحداد ، قلت لهم ساعدوني أريد أن استعيد أشيائي فاعتذر مسؤول القسم من قبول بلاغي وطلب مني تقديمه إلى "مكتب أنصار الله".
وهنا بدأت البحث عن "أنصار الله"، يقول الشاب الجزائري ذو القامة الطويلة: دلني بعض الجنود على مركز بدر الواقع في الصافية ذهبت إلى هناك فألقوا القبض عليّ، وأجرى معي شخصين تحقيقاً مطوّلاً ثم غادرا المكتب ودخل شخص آخر يُدعى "أبو عثمان" وأعاد التحقيق معي من جديد.
وقال لي أبو عثمان "ليش جيت اليمن بعد 29 سنة؟".
قلت له: إن والدي يمني وأنا من أصول يمنية جئت لاستخراج بعض الأوراق من الخارجية اليمنية وسأعود ادراجي.
يقول طارق إن الحوثي اتهمه بالمجيء إلى الدراسة في معهد دماج التابع للسلفيين، لكنني رديت بالقول: دماج من؟ أنا لا اعرف شيئاً مما تتحدثون به.
لكنه كان مصر إني أتيت للدراسة في دماج.
وخاض الحوثيون حروباً عنيفة مع أبناء دماج وطلاب معهد سلفي في المنطقة الواقعة بمحافظة صعدة شمالي اليمن، وأفضت تلك الحروب إلى تشريد أبناء المنطقة ومغادرتهم لها.
انهالت العصي والهراوات على جسد طارق، لرفضه موافقتهم بأنه طالب في معهد دماج، يقول طارق: "تعرضت للضرب والتعذيب وهم يقولون لي اعترف، وأنا أصرخ وأقول لهم لا أعرف شي اقسم بالله لا أعرف شي".
كانت هذه أول مرة أقابل فيها مأساة مجسدة امام عيني، يضيف طارق: اعتدت أن أرى أناساً يعيشون في شدة الضيق والضعف على المستويين المادي والبدني.
كان لحاجز لكنته الجزائرية حاجزاً أثر في نفسه، إذا كيف لامرئٍ يريد أن يدافع عن نفسه بالكاد ينطق العربية أن يتعامل مع أناس لهم لهجة خاصة في التحدث، ولقد ظل 19 يوماً يتلقى التعذيب على يد الحوثيين دون أن يعرف تهمته، وحتى اللحظة، وهو حر طليق يطوف شوارع الجزائر، لا تزال الأسئلة ترده عن التهمة التي تسببت له في الاختطاف والتعذيب..
يواصل طارق "بعد أيام من التعذيب والسجن طلبوا منا أن نصلي وأثناء صلاة المغرب قلت بعد أن أكمل الإمام الفاتحة: آمين ، فلكزني شخص بالقرب مني على جنبي لكزة مؤلمة.
عقب الانتهاء من الصلاة حدثني الشخص الذي كان بجواري من أنه لا يجوز الضم والتأمين؛ لكني لم أتردد في مصارحته وقلت له: إني لا أصلي أساساً وإن هذه الوضعية تعلمتها منذ الصغر فقط.
وفي اليوم التالي احضر المسؤولون عن السجن الحوثي شيخاً منهم يحرم علينا التأمين والضم في الصلاة.
كان طارق في وضع مزرٍ للغاية فقد كان يبدو من رائحته أنه لم يغتسل منذ قرابة شهر، وملابسة كانت متسخة ولزجة.
لكن الذنب لم يكن ذنبه فقد أمضى 19 يوماً بهذه الملابس في زنازين هي أكثر وساخة وسوءا، كما مارس غسل السيارات لتجميع مبلغ مالي لمدة يومين، ونام أمام بوابة مصلحة الجوازات ثلاثة أيام.
وحين أرانا صورة شخصية لها على صفحته بـ«الفيسبوك» وهو يصعد الطائرة إلى اليمن، ذُهلنا كم هو الفرق بين وضعه السابق والوضع الذي أودى به إلى هذه الحالة السيئة.
افصح طارق عند معلومات حول سجناء قال إنهم سلفيون كانوا معه في زنزانة واحدة وعددهم ستة أشخاص، قال إن احدهم كان يدعى يحيى الشرفي يقول طارق "تعرض الشرفي لتعذيب فظيع، وكنا شهوداً على هذا الأسلوب".
بعد 19 يوماً وبعد ان ثبت للحوثيين أن الرجل ليس من طلاب دماج، أفرجوا عنه لتبدأ بعدها معاناة من نوع آخر.
لم يكن يمتلك نقود، لايعرف أحد ، ذهب إلى مصلحة الهجرة والجوازات ليستخرج جواز جديد فطلبوا منه إعلان عن فقدان بجريدة رسمية قيمة الإعلان تبلغ خمسة دولارات.
قال طارق لم يكن لدي مال كان الشارع هو بيتي كنت أنام بالشارع، بعدها قررت العمل من أجل قيمة إعلان الفقدان، كانت وسيلة العمل المناسبة هي غسل السيارات لكن الأمر لم يرق لبعض الأفارقة الذين يحتكرون المهنة ،"تعرضت للضرب والمضايقة من قبلهم ، لكنني واصلت عملي حتى جمعت النقود، وقمت بنشر إعلان في الجريدة الرسمية".
توجه بعدها للجوازات لكنهم طلبوا منه قرابة 30 دولار غرامة فقدان الجواز ، فقرر أن يبيت ثلاثة أيام أمام مبنى الجوازات علّهم يعفونه من دفع المبلغ، لكن محاولته باءت بالفشل.
بعدها قالت له شرطية تعمل في الجوازات يجب عليك الذهاب إلى تلفزيون يمن شباب فثمة موظفون هناك لديهم معرفة بمسؤولين في الجوازات، ربما باتصال سيعفون عنك.
وعند التقائه بـ«مندب برس» كنا مصغيين للاستماع إلى نشر قصته، لكنه ترجانا ألا نفعل ذلك قبل مغادرته.
وقال لنا: سمعت أن الحوثيين مسيطرين على الوضع في صنعاء بشكل كلي، لو علموا أني وصلت إليكم وأخبرتكم بقصتي أخشى أن يحتجزوني في المطار ويمنعونني من المغادرة، انتظروا حتى أغادر!
ويوم أمس تلقينا رسالة منه عبر "الفيسبوك" يقول لي إنه سيسافر في اليوم التالي، وهنا كان لابد من عرض القصة على الرأي العام.
لوهلة تخيلت ماذا يعني أن يكون لك غرض ما لتقضيه في أي بلد ثم تجد نفسك فجأة في السجن؟ ماذ يعني أن تشتاق لدفء أسرتك وأصدقاءك ومدينتك ، ثم تصبح سجيناً في بلد لا تعرف عنه شيئاً ولا تدري ما هي جنايتك؟