الأرشيف

بين شرعية ضائعة وانقلاب فاشل، اليمنيون يدفعون الثمن

الأرشيف
الجمعة ، ٠٨ ابريل ٢٠١٦ الساعة ٠٧:١٧ مساءً

عبدالوهاب العمراني - دبلوماسي وكاتب سياسي يمني


أكثر من نصف قرن واليمنيون يزحفون في الرمال المتحركة. فحالة عدم الاستقرار للأسف لازمت المشهد السياسي اليمني منذ عقود مضت، مما أدى لغياب رؤية ومشروع وطني نهضوي في دولة مدنية تسعى لتنمية اليمن وكرامة المواطن في سياق وأجواء سياسة خارجية منفتحة دون تفريط في السياسة، وتلك أهداف الثورة السبتمبرية التي غدت كغيرها من المفردات مجرد قيم افتراضية يتغنى بها. لقد كانت الوحدة اليمنية مطلع التسعينيات أمل اليمنيين في انبلاج عهد جديد لكنها وأدت بيد صانعيها فبعد حرب 1994 زاد الأمر سوءا فاستأثرت السلطة بيد اولغاركية انتهازية في نظام ديماغوجي. انحصر اهتمام القيادة آنذاك بتقوية نظام على حساب تفسخ الدولة فكانت بداية تكوين للدولة العميقة التي نشهد تداعياتها في هذه الظروف المتداخلة.

بعد أكثر من عقدين من تلك الوحدة الارتجالية اتجه النظام السياسي للعب على التناقضات وسياسة فرق تسد وانحصار رؤيته في إرضاء الخارج ومهادنة الداخل ومن هنا فما بني على خطأ فهو خطأ. تراكُمات وسلبيات بعضها فوق بعض أسفرت بداهةً لحالة مُسخ ومنزلة بين المنزلتين. فأخطاء ثلاثة عقود أسفرت عن فشل محاولة ثورة اليمنيين في فبراير من 2011 التي تآمر عليها الإقليم بالمبادرة الخليجية السيئة الصيت والتي حملت بذور فنائها في طياتها.

اليوم وبعد أكثر من عام من الحرب ونحو عام ونصف على سقوط صنعاء تتكرر تلك الأخطاء تحت مبرر التوافق والحلول السياسية المرتجلة. فتجربة المجرب ضرباً من الحماقة. فإذا كانت المرحلة الانتقالية الفاشلة غداة الربيع العربي في نسخته اليمنية قد أسفرت عن بقاء نصف الدولة العميقة لإجهاض المرحلة الانتقالية فأن نتائج لقاء الكويت قد يسفر عنه إضافة طرف ثالث فاعل وهو المكون الحوثي والذي لا زال مجرد ميليشيا وليس بحزب سياسي مُعترف به دستورياً. ولعل من أهم أخطاء إدارة الرئيس عبدربه منصور هادي هو السماح لهم بالانخراط في الحوار وهم مجرد ميليشيا وتحت الضغوط وسياسة الغلبة والقوة أبرم "اتفاق السلم والشراكة" والذي ولد ميتاً، لاننا ببساطة لم نرَ لا سلماً ولا شراكة، بل هرولة للاستحواذ على السلطة والإقصاء ومن ثم ما سُمي بالإعلان الدستوري لفرض أمر واقع عبر فوهة البندقية وليس بالتوافق والإجماع والتراضي. فإذا كان حوار عام افضى لعام من الحرب فكيف بعد خراب البصرة يراد لهكذا تفاوض ان يلجُ باليمن للسلام المرجو وأن ترسوا سفينة اليمن على بر الامان!

المستقبل القريب، لو افترضنا أن تم تمرير صفقات مشبوهة على هذا النحو، لن يكون طرفا الانقلاب او خصومهم هم من يتصدر المشهد بل ستدخل قوى أخرى بصورة أو باخرى. وإذا كانت السنوات الماضية قد أظهرت الحركة الحوثية إلى السطح فأن الفترة المقبلة قد تدفع بحركات أخرى إلى تبني العنف سواء بواجهة رسمية كالسلفيين او عبر تنظيمات سرية كخلايا القاعدة. الحركة السلفية على سبيل المثال نأت بنفسها جزئياً في الفترة السابقة لجملة اعتبارات لوجستية وسياسية وإعتبارات أخرى. ذلك الابتعاد كانت ناتجاً عن حالة من التنزيه الديني، وعدم الوقوع فيما يسمونه شبهات نُظم السياسة المفروضة عليهم وعلى "النص الشرعي" لا العكس. فكان بقاؤهم في مؤسسات دعوية وإغاثية وفكرية هو الخيار الوحيد. حتى جاءت الثورة فدفعت أغلبهم إلى واجهة السياسة.

يبدوا ان الهرولة لمثل هذه الحلول الارتجالية تأتي على خلفية إخفاقات الشرعية والتحالف في آن واحد. فكما لم يستطع تحالف الانقلاب ان يحقق نصراً يذكر لكنه يوهم الرأي العام بأنه على الأقل صامد وسيحقق مكاسب سياسية اقلها ان تحالف الانقلاب قد لا يُحاسب بل وقد يكون له حُصة يتفق عليها في كعكة السلطة مقابل عفو وعدم محاسبة للتحالف والتغاضي عن محاسبته جراء الجرائم التي ارتكبوها وما كان يرصد ويتوعد بالويل والثبور فقط لكسب ود وتعاطف الرأي العام المناوئ لهذا التحالف الذي يمثل نفسه في الساحة اليمنية والمحافل الدولية بأنه من اجل إعادة الشرعية.

كأي حرب تنتهي أما بحسم واضح أو جزئي وغالباً بتعثر لاعتبارات سياسية كما هو الواضح في الحالة اليمنية التي آلت الأمور فيها لترتيب الملعب أملا في تفاوض مرتقب قد ينتهي بحل نظري على الأقل. لكن ذلك لا يعني أن سلاماً يلوح في الأفق، بل العكس. فالضبيابية وعدم الوضوح في المشهد لدى الرأي العام هو مبرر للقلق والإشاعات.

الواضح من رصد تطورات المشهد السياسي والعسكري وقبل أيام من اللقاء التفاوضي المرتقب في الكويت وعلى خلفية مرور عام على الحرب التي بدأت قبل هذا التاريخ أصلا ان التوتر والحروب هما السائدان في المشهد اليمني غداة الربيع العربي بل وقبله بعد ان أدرك الحوثيون بأنهم على شفا الاستسلام الكامل. كانت هذه المفاوضات بمثابة طوق نجاه لهم والتي أتت على خلفية هزائم. وفي نفس الوقت عجز التحالف عن حسم المعركة لصالح الشرعية الضعيفة. ربما يبدي الحوثيون مرونة شكلية لاستدراج الطرف الآخر. لكن اللافت أنهم لازالوا متخندقين بأوهام النصر الإلهي المؤزر على اعتبار ان كل الحروب التي خاضوها كانوا يتجاوزنها في آخر لحظة. وتزيد هذه الرؤية من اعتقادهم بجهادهم تحت راية الحسين وبدعم إيراني وتعاطف غربي وروسي واضح من خلال تحرك أميركي كلما قرب الحسم لإنقاذهم من ورطتهم بطوق نجاة سياسي من خلال الإيعاز لمجلس الأمن بالتحرك السريع في اليومين المقبلين لجلسة تحت مسمى مناقشة الوضع الإنساني على خلفية تقارير تؤكد رفض الحوثيين المستمر تسهيل المواد الغذائية والتمرينات الطبية للمناطق المنكوبة وبالأخص تعز.

من هنا، قد يكون مصير أي لقاء وتفاوض هو الفشل كسابقة ومحاكاة لتعثر النموذج السوري بداهة أي حرب تنتهي بصورة أو بأخرى ومآلاها التفاوض، ولا سلام بدون تطبيق قرار مجلس الامن وعودة الحوثي كتيار سياسي.. وكل ما يروج بعد هرولة قيادة حوثية للسعودية انما يندرج تحت مسمى الاحتواء السعودي الناعم كما حدث في الحرب الأهلية اليمنية في الستينيات. فكلا من طرفي الصراع المحليين والإقليميين يُعتد بأنه يحمل نوايا مبيتة للأخر ويوحي بالتالي بأن الحرب ربما لن تنتهي قريباً وحتى لو انتهت بعد الهدنة يُخشى ان تكون بمثابة هدنة طويلة ولن تستقر الأمور على الأقل داخل اليمن وقد تتفاقم التناقضات مرة أخرى. فمن تجارب اليمنيين بأن حرباً تلد أخرى.

مآلات هذه الحرب لأكثر من عام هي تصميم كلا الطرفين على إنهاء الآخر بأي ثمن دون الاعتبارات الإنسانية، وهو صراع إيراني سعودي واليمنيون مجرد وقود فيه.

وإجمالاً يمكن القول بأن المشهد السياسي في اليمن يمر بمنعطف خطير قد لا ندرك مآلاته وتداعياته من كل الزوايا إلا بعد حين. لقد عمل النظام السابق على زرع الفتن وتهيئة المتناقضات بين مكونات المجتمع والنُخب السياسية متزامنا مع تردي الأوضاع الاقتصادية والخدمات منذ عقود رغم ثروات اليمن التي استهلكت في حماقات سياسية وشراء الذمم وعقود مشبوهة لتصدير ثروات الوطن واقتناء الأسلحة. واليوم يحصد اليمنيون سياسة عبث ثلث قرن من الفساد المطلق. فلو تم بناء مؤسسات دولة مدنية لما حصل هذا أصلا ولما كُنا في هذا الحال. اخطر ما استحدث في العقلية اليمنية والضمير الجمعي اليمني هو الاستقطاب السياسي الحاد والمذهبي. والأخطر هو تداخل الديني بالسياسي. ومن هنا فلن يستقر الحال باليمن إلا في غياب الأحزاب الدينية المذهبية، وكذا يتوارى كل من في المشهد السياسي بعد التحرير بمن فيهم هادي.

 

*ميدل إست اون لاين