الأرشيف

مآلات الصراع في الشرق الأوسط وأيدلوجيات القوى العظمى

الأرشيف
الثلاثاء ، ١٢ ابريل ٢٠١٦ الساعة ٠١:٠٩ صباحاً

مبارك الباشا


لم تكن ثورات الربيع العربي وليدة الصدفة ولا محض ارهاصات عفوية ساذجة؛ اشعلت فتيلها العوامل السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية فحسب؛ ولكنها كانت جزاً من استراتيجية استعمارية غربية جديدة تنطوي تحت مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي نادت له وزير الخارجية الأمريكية "هيلاري كلينتون" مرات عديدة، والذي سيكون طبقاً لفكرة"الفوضى الخلاقة"، هذا المصطلح الذي بات يتردد كثيراً في الحقبة الأخيرة من عمر الشرق الأوسط، على مستوى الخبراء والعسكريين الغربيين؛ ويعني بالظرورة إغراق منطقة الشرق الأوسط في صراعات وحروب لا تنتهي، بهدف إعادة شكيل خارطة الشرق الأوسط من جديد وتقسيمه على أسس إثنية وعرقية إلى دويلات صغيرة بهدف الحفاظ على أمن "اسرائيل" الطفلة المدللة للغرب، التي زُرعت في قلب الجغرافيا العربية الحديثة والمحيط الشرق أوسطي ككل.


الثورات العربية حققت أهداف ديمغرافية غربية أكثر من تحقيقها آمال وتطلعات الشعوب العربية، حيث كانت هدفا غربياً مدروساً ومشبوباً بقلق من احتمال نجاح هذه المشاريع الثورية، ولم تكن بالغالب نتيجة طبيعة للانحطاط العربي، لأن الانحطاط يعتبر جزئية من مشروع الهوة المفتعلة بين الشعوب وحكوماتها. 
الشعوب العربية لم تكن تمارس الخيانة ضد الأوطان عندما قررت أن تثور على أنظمتها الفاسدة، لا يمكننا قول ذلك كما يحلو لأنصار الثورات المضادة التشدق به من باب التشويه وشيطنة تلك الثورات.


الثورات العربية حدثت لمطالب مشروعة ولا مشكلة في ذلك؛ وإنما المشكل الحقيقي في اللاعبين الدوليين وزعماء الحروب الذين يتربعون على قمة الهرم في أنظمة ديمقراطية غربية وشرقية، حيث عملوا جاهدين على تقويض المشروع الثوري برمته، وبالتالي تحريف الثورات عن مسارها الحقيقي، بل وصل  الأمر حد اختلاق قضايا جديدة شغلت الرأي العام الدولي، وبالتالي طُمست معالم الثورات وظهرت أحداث غيرت موازين القوى وشغلت اهتمام الرأي العام العالمي بقوة على حساب مشروع الثورة، "داعش" أنموذجاً لذلك.


كانت سياسات الأنظمة العربية قبيل ثورات الربيع تتهاوى بشل اطرادي نحو الفشل دركات، ولم تكن توحى بأية بصيص نحو النهوض، كانت قد وصلت حداً لا يطاق في الانحطاط والتدني، وتراجعت الى نقطة لايمكن معها السكوت، وبالتالي كانت قد وصلت الشعوب إلى درجة قصوى من الصبر لا يمكن معها تحمل المزيد؛ فخرجت تطالب بالتغيير الذي أفضى إلى محصلة طبيعية وهي الثورات.


ومع سرعة التطورات المذهلة في ثورات الشعوب طرح تساؤل هام مفاده: هل كانت هذه الثورات نتيجة طبيعية لاستبداد الأنظمة الحاكمة أم هي هدف ديمغرافي مدروس؟
حكومة العالم الخفية تظهر هنا بشدة من حيث أنها المدبر واللاعب الرئيسي في المعادلة الدولية الجديدة.
مشروع الثورات العربية بالنسبة لها مشروعاً خطيراً لأنه قائم على زوال "اسرائيل"،  فعمدت في نهجها إلى استراتيجية فيها الكثير من المغامرة والكثير من الدهاء، فهي من أوصلت الأنظمة العربية إلى هذا الحد من الانحطاط عبر استراتيجيات اقتصادية لعبت دورها عبر البنك الدولي الذي تملكه إحدى العائلات اليهودية، والتي تتحكم في اقتصاد العالم بأسره.
تم اختراق المنظومة العربية بشبكة من الأفكار الهدامة والمبادئ الفكرية المستوردة، وكذا النظريات الإجتماعية الفاسدة التي
لعبت دوراً سلبياً في طريق الأمة ومشروع نهوضها.

 

حينما عمدت العائلات الحاكمة "الحكومة الخفية" إلى تقرير مصير العالم العربي والإسلامي عقب الحرب العالمية الثانية، انتهجت استراتيجية تنصيب أنظمة فاسدة وديكتاتورية ذات نهج ميكافيلي كي تضمن أكبر قدر من المصالح في الشرق الأوسط الإسلامي، فتحت الباب على مصراعية للوصول إلى السلطة أمام تلك الأنظمة، وعملت على إقصاء الجماعات التي تحمل مشاريع نهضوية كبيرة خصوصاً تلك التي انتهجت طريقاً وسطياً ومعتدلاً.
شكلت الأنظمة العربية الفاسدة نافذة عبور للنظام الغربي في تمرير مخططاته الاستعمارية، فأضحت يافطة لتلك المشاريع لا اكثر من ذلك، وأوهمت الشعوب بأنها الحارس الأمين والبطل المغوار في مواجهة التحدي الاستعماري.

ظلت سياسة التجهيل سارية المفعول فترة من الزمن للهدف الإستعماري ذاته، الذي يقضي بضرورة إفساد المنظومة السياسية والفكرية والاجتماعية العربية، لكن سرعان ما بدت شعاعات النور تلوح من بعيد عبر جائحة الثورات.
ماذا لو كانت الأنظمة العربية تتمتع بقدر كاف من الحرية والنزاهة؟ هل كانت ستثور شعوب جل أمانيها وشل بسيط من الحرية ورفاهية في العيش، لكن أبت تلك الأنظمة الجبرية إلا الامتهان فوقعت في فخ القوى الاستعمارية دون أن تدرك ذلك.
حدثت الثورات ففرضت واقعاً مغايراً وحيثيات جديدة شكلت معطيات يجب التعامل معها وفق رؤية جديدة حسب المتغيرات التي حدثت على الساحة المحلية والدولية.

الصراعات والفوضى تعم المنطقة العربية اليوم كجائحة مرضية سريعة التفشي، يبدو أن نظرية "الفوضى الخلاقة" تحققت سريعاً على ما يبدو لكنها حتماً ليست خلاقة ولن تكون كذلك من حيث أنها لم تجلب إلا الشر، فالخراب يعم الإقليم الشرق الأوسطي من أقصاه إلى أقصاه.
ظهور تحالفات جديدة في المنطقة أربك القوى الدولية فعمدت إلى أسلوب السياسة الضبابية، وهو حتماً مؤشر على لخبطة في موازين الاستراتيجيات الاستعمارية الجديدة، حدوث مالم يكن متوقعاً "التحالف الإسلامي" جعل القوى الدولية تعيد حساباتها من جديد حسب المعطيات على الأرض.
التحالف [التركي السعودي] أحدث خازوقاً في منظومة السياسة الدولية، وبالتالي تعرى الإجماع الدولى في وأد الثورة السورية حتى بات مكشوفاً تماماً، الأمر الذي أثار حفيظة العديد من الدول العظمى فناصبت العداء عياناً وأصبحت اللعبة مكشوفة تماماً.
حسم الصراعات في المنطقة لم يعد بتلك السهولة التي كانت بادية في بداية الأمر بسبب تشابك الإيدلوجيات وازدواجية المصالح الدولية وكذا تعدد العرقيات والطوائف الإثنية المتصارعة، بروز تنظيمات راديكالية محسوبة على الثورات ومعادية لها في الوقت ذاته بعد أن فرضت ذاتها على الواقع بقوة حتى أصبحت لاعباً رئيسياً في المعادلة الجديدة.
ظهور تنظيم مثل "داعش" لم يكن وارداً في حسابات القوى الثورية على المستوى العربي، ولكنه كان هدفاً يجب تحقيقه في حسابات "الحكومة الخفية" من أجل تقويض مشروع الثورة برمته، ولحسابات طبغرافية بعيدة المدى.
إذن لم يكن ظهور تنظيم "داعش" نتيجة طبيعية لحروب طائفية وعرقية فحسب؛ ولكنه كان هدفاً ديمغرافياً مدروساً في الخطط العسكرية السرية للقوى العظمى وحكومة العالم الخفية التي باتت تتحكم بشكل شبه كلي بمجريات الأحداث في العالم.
على ضوء هذه المعايير المناقظة بالكلية لأي فكرة سلام في منطقة الشرق الأوسط على المستويين  القريب والمتوسط، لا يمكن تحقيق استقرار عبر وسائل الدبلوماسية الحديثة، حيث وأنه لا مكان لهذه الوسائل في ظل ضروف بالغة التعقيد.
لقد أثبتت الدبلوماسية فشلها في كثير من المواقف وحلت بديلاً عنها الحرب كخيار لا مفر منه، لم تستطع القضية الفلسطينية على سبيل المثال من تحقيق الحد الأدنى من الأهداف على مدى عقود من الزمن عبر الدبلوماسية، بينما حققت الكثير من الأهداف عن طريق المقاومة والنظال.
ديبلوماسية مجلس الأمن لا يُعول عليها في شئ طالما ودوره يقتصر على تحقيق أهداف أعظاءه الدائمين.

فشلت الديبلوماسية في إيجاد حل للمسألة السورية، وأظهر المجتمع الدولي عجزه التام عن مواكبة المستجدات، حيث أكتفى بدور المتفرج.
لم يخفى على أحد التحيز المخزي لمجلس الأمن الدولي في ووقوفه إلى جانب الأسد ومناوئة الثورة السورية، وتستره المفضوح خلف قناع العجز.
مجلس الأمن الدولي تحول إلى مجلس لإدارة الصراعات في العالم حسب مصالح الدول الدائمة العضوية فيه.
هيئة الأمم المتحدة هي الأخرى أصبحت هيكلاً واهناً ومتصدعاً قريب الشبه ببيت العنكبوت.
انتصار الحرب على الدبلوماسية يعد مؤشراً خطيراً في مسار وطبيعة الصراعات الدولية، لأنه يعني انسداد قنوات التواصل الدولي وانعدام نقاط الإلتقاء بين أطراف الصراع الدوليين؛ الأمر الذي ينبئ بحرب عالمية جديدة وشاملة، وهو احتمال وارد في ظل ما أفضت إليه معطيات الحرب الحالية.
بعبارة مقتضبة يمكننا القول بأن القرار العربي بات مختفاً لدى القوى الدولية في الشرق والغرب ولم يعد هناك الكثير لنفعله.
التحالف الإسلامي لا يستطيع حسم أية معركة على الأرض بسهوله، لكنه بالتأكيد يمكنه تخريب اللعبة الدولية وبعثرة الأوراق لفترة معينه، يستطيع أن يحدث خازوقاً في الاستراتيجية الاستعمارية الجديدة في المنطقة من خلال قص أجنحة أدواتها في المنطقة المتمثلة بالمحور الإيراني وأزلامه في الجغرافيا العربية.
انسداد أفق التعايش على المستوى الشعبي الجماهيري في المجتمع العربي بسبب تعدد الطوائف والإثنيات العرقية يعطي بعداً آخر نحو الفصام؛ وهو ما سيفضي إلى المزيد من الصراعات والحروب، التي هي حتماً ثمناً للغفلة العربية المستفحلة منذ عقود من الزمن، حيث تعتبر نتيجة طبيعية لانعدام الوعي السياسي والديني لدى هذه المجتمعات.
صمت مطبق، وغفلة عميقة، وغباء تاريخي. كل هذه كانت أحلام وسن في المرحلة الأخيرة من عمر المجتمعات العربية والإسلامية، لم تستيقظ منها إلا على شفير كارثة محدقة.

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)