الأرشيف

?حاء الحرب و…حاء الحياة

الأرشيف
الأحد ، ١٧ ابريل ٢٠١٦ الساعة ٠٩:٢٩ صباحاً

سعيد يقطين


أقلني السائق اليمني في سيارة التاكسي بعد مساومة شديدة على الثمن، وهذا لم يحدث لي مع أي سائق باكستاني أو يمني آخر. ما إن وافق وجلست بجانبه حتى سألني: الأخ تونسي ولا مغربي؟ وما إن أجبته حتى سألني: كيف الأحوال في المغرب؟ الحمد لله بخير، محاولا إنهاء الحديث. لا يعجبني الكلام أحيانا، أو حين لا أرى فائدة منه. وتبين لي أنني مع سائق لا يمكن أن تشاركه الحديث. لم يترك لكلامي فرصة للوصول إلى مسامعه، حتى أفرغ كل ما في جعبته من أدعية على المغرب ومصر وكل الدول المشاركة في حربها على اليمن. وختمها بقوله لو أصاب المغرب مكروه فإنه سيتشفى في المغرب ولم أكن من العاجزين، فحاولت إجلاء الصورة له، وبينت له أني زرت اليمن، وأعرف يمنيين كثيرين، وأن  ما يقع في الوطن العربي مؤلم… عندما أردت النزول، قال لي: أنت أخي. عقبت: العربي والمسلم لا يتمنى لأخيه المصائب، وإذا وقع فيها لا يتشفى فيه. وإلا فلا علاقة له بالإسلام ولا العروبة.
استفزني هذا الحديث، ولم أرد معرفة طائفته ولا قبيلته لأني أؤمن بحق أي كان في أن يفكر كما يحلو له. «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة». ولكني ذهبت بعيدا في رؤية آثار هذا الواقع على نفسية العربي، وما يمكن أن يتولد عنها من تصورات في المستقبل. فتذكرت عندما كنت، تلميذا في ثانوية مولاي سليمان بفاس، أرفع شعار «اتحاد الشعوب العربية». وحين سألتني أستاذة التاريخ عن الشعار (UPA) لما رأته على دفاتري، وترجمته لها، قالت لي «أنت قومي». كنا قد تعرفنا على القومية الإيطالية والألمانية. فقلت لها: لست قوميا، ولكني عربي ومسلم أيضا.
كنا نحلم بالوحدة العربية لأن كلمة عربي تعني المستقبل، وليس الماضي. وأن كلمة مسلم تعني الطهارة، بكل ما في الكلمة من معنى. ولم يكن إيماننا بالعروبة ولا بالوحدة إلا من زاوية أنها الحل الأمثل لكل المشاكل التي نتخبط فيها. وأن المدلول «العرقي» للعروبة لم يكن يعنيني، لأني كنت أرى أي واحد منا يقطع صلاته بأصوله البدوية، وهي «العرق» الأقرب والأصح والحقيقي للانتماء. كانت العروبة بالنسبة إلي تعني الثقافة والإنسان. وكان الإسلام يمثل عندي «الإنسان الكامل» الذي نطمح لنكونه، أيا كان عرقه أو جنسه أو لغته.
ها قد تحولت «العروبة» سبة وعارا. وصار «الإسلام» إرهابا وشنارا. ولم ينجم عن ذلك، ويا للأسف، غير النقيض. صار الأمازيغي والكردي والجنوبي السوداني… يقول: أنا أمازيغي وكردي ومسيحي… ولا داعي إلى الإشارة إلى أشياء كثيرة صار يُعبر عنها بـ»الفم المليان»، وعلى مرأى ومسمع من الجميع رغم أنها كانت إلى وقت قريب جدا لا يمكن أن يشار إلى صاحبها حتى بالبنان خوفا من غضبته. ألسنا في عصر حقوق الإنسان؟
في عصر حقوق الإنسان لم يعد بإمكانك أن تقول: «سجل أنا عربي» لأنك ستتهم بأنك «قومجي». وليس لك أن تقول: أنا مسلم. لأنك ستكون إرهابيا، أو لاعلمانيا. وللآخر الذي قمعته «القومية العربية والوحدة والاشتراكية» أن يفصح عن قوميته.  وله كل الحق، نظريا، أن يمزج ذلك بالعلمانية والعقلانية دون أن يتهم بأنه «قومجي» أو «عرقي». وله ، أيضا، أن يصرح، جهارا نهارا، بكفره بكلمة «عربي»، ونفوره حتى من سماعها، دون أن يقدر أحد على اتهامه بأنه عنصري. أو للآخر أن يفصح عن دينه أو طائفته، ويحمل السلاح في ميليشيات، ويُهجر المواطنين، ويقتل الأبرياء… دون أن يسمح  لأحد أن يتهمه بالإرهاب لأنه بكلمة ضد الإرهاب؟
كان هذا الاسترجاع وما ترتب عليه إلى واقع الحال وليد التفكير في حديثي مع السائق اليمني. وتبين لي أن آثار تاريخ طويل من العسف، ابتدأ مع الاستعمار، كي لا نذهب بعيدا، واستمر مع الاستقلال هو الذي أدى إلى مثل هذه الأحاسيس والأهواء والنعرات والطوائف. فمن المسؤول عن هذا الواقع؟ وأين «المواطن» في هذه الرقعة الجغرافية، ولتسمِّها ما شئت حسب الأهواء والنعرات: شمال إفريقيا والشرق الأوسط، أو الوطن العربي، أو العالم العربي، أو حتى العالم الإسلامي؟
كثيرا ما تحدثنا عن «الوطن». وصار الآن كلٌّ يبحث عن  فرض «وطنه» على الآخرين باسم الدفاع عن قوميته وعرقيته وطائفيته؟ لم يظهر مفهوم «الوطن» إلا في العصر الحديث.  لقد بنى آباؤنا هذا «الوطن» بدمائهم، والتحامهم وبدون نظرة عرقية أو قبلية، لأنهم كانوا يحلمون بـ»وطن» لنا، أي لأبنائهم وأحفادهم. أي وطن للجميع بلا هوية ضيقة. هذا الوطن عندما كنا نتحدث عنه أو نفكر فيه، أو نعمل من أجله، لم يكن يعنينا، فيه بالدرجة الأولى أو الأخيرة، «المواطن»، وهو الإنسان. لذلك كانت الدول المتعاقبة تعمل على بناء «الوطن» ضد «المواطن». فلم تعترف له حتى بحق الكلام. وحتى الأحزاب والتيارات السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن أقصى درجات «الرجعية» إلى أدنى مستويات «التقدمية»، كانت وما زالت، لا يهمها من الوصول إلى السلطة إلا «الوطن»، وضد مصلحة «المواطن». وليس «الوطن» سوى «التسلط على الآخر» أي المواطن، الشعب بغض النظر عن هويته.
تعاملت مع السائق اليمني في قرارة نفسي بصفته مواطنا. كيف يرى هذا «المواطن» وطنه؟ وكيف يفكر فيه؟ وكيف يرى صلته بغيره من الأوطان القريبة والبعيدة؟ وماذا يتمنى لها؟ هذه هي الأسئلة التي كانت تعنيني. لذلك لم أهتم هل هو مع الحوثي أو أنصار صالح. كنت أبحث عن «الإنسان» في هذا «المواطن» وليس عن انتمائه الطائفي أو تعاطفه الإيديولوجي. وكان سؤالي الأكبر: لماذا يقتلون فينا روح «المواطنة» والروح الإنسانية، ويحولوننا إلى أرقام في خانات مصفوفات حسب اللون والعرق واللغة؟ ألا يمكننا أن نتعايش بكيفية أرقى، ونتجاوز ما مارسته الأنظمة منذ الاستقلال وبمستوى حضاري سام؟ دون أن يسأل أي منا الآخر: ما هي هويته؟
سقطت إيديولوجيات التحرر والوحدة والاشتراكية، ليس لأنها كانت قومجية أو علمانية أو ما شئتم من الأوصاف أو حتى وهي تكتب «الله أكبر» على الراية، أو يصلي زعيمها وراء الإمام. ولا يمكن إلا أن تتداعى كل الإيديولوجيات العرقية والطائفية حتى قبل أن تتأسس، أو حتى بعد أن تنفصل، أو تبني لها «الوطن الحلم»، لأنها، لسبب بسيط، تنبني على أسطورة «الوطن» وليس على حقيقة «المواطن». ويخبرنا تاريخ الحركات الكبرى أن السلاح يرتد إلى حامليه فيما بينهم، عندما يزيحون خصمهم القديم. إنهم مثل «اللصوص» يتشاجرون فيما بينهم بصدد اقتسام الغنيمة.
عندما أرى المهجرين في الشام والعراق، وأرى آثار البؤس والهلع والضياع بادية على محياهم، لا أتساءل هل هم أكراد أو مسيحيون أو شيعة أو عرب… أرى فيهم الأب الذي فقد وظيفته، والطفل الذي أضاع محفظته، والأم التي صارت تعلق المستقبل على من يأويهم خارج بيوتهم. وأرى الشيء نفسه حين أشاهد بيتا يهدم، أو مدرسة تخرب… تُخاض حروب لغوية ومادية من  أجل «هوية» «وطن؟»، ولكننا ننسى «هوية المواطن الشخصية» الذي لا تعنيه كل حاءات الحروب، ولا تهمه سوى حاء «الحياة» الكريمة. فمتى تنتهي الحروب الهوياتية من أجل هوية الحياة؟
كاتب مغربي عن القدس العربي 

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)