تعود الساحة اليمنية إلى واجهة الصراع الإقليمي مجدّداً، وهذه المرّة من حيث خفض التصعيد، إذ شكل اتفاق الهدنة بين الإدارة الأميركية وجماعة الحوثي القاضي بوقف الأعمال العدائية المتبادلة تحوّلاً في نهجهما التصعيدي، إلا أن اتفاق الهدنة فرضته حسابات الطرفين وتشابكات مصالح الشركاء والحلفاء في هذه المرحلة، وبالتالي، التهدئة، أياً كان مستقبلها، من المبكّر أن تؤدي إلى تأمين حرّية الملاحة في البحر الأحمر، ناهيك عن خفض التصعيد في منطقة الشرق الأوسط الذي يرتبط بتعقيدات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والصراع الإسرائيلي - الإيراني.
شكّلت اتفاقية التهدئة مع جماعة الحوثي تحولاً في السياسة الخارجية الأميركية، والذي يستند إلى تقييم استراتيجية الردع من حيث نتائجها المباشرة على تأمين مصالحها، باللجوء إلى تعطيل استراتيجية الردع العسكري ولو مؤقتاً، مقابل تفضيل الواقعية السياسية في التعاطي مع الجماعة، وإن عُني بذلك إعادة ضبط علاقتها بحلفائها وخصومها في منطقة الشرق الأوسط، من حيث تثبيت مبدأ أميركا أولاً، إذ إن أزمة الملاحة في البحر الأحمر، وإن مثّلت توتراً جيوسياسياً ناجماً عن حرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة، فإنها أضرّت بمصالح أميركا جرّاء استهداف الجماعة سفنها التجارية وتعطيل حركة مرورها أكثر من غيرها من القوى الغربية، بما في ذلك إسرائيل نفسها، وبالتالي، تصعيد الكيان الإسرائيلي حربه في القطاع يعني استمرار تحميل الإدارة الأميركية كلفة اقتصادية جرّاء عرقلة مرور سفنها في البحر الأحمر، إلى جانب تبعات ردع الجماعة في الجبهة اليمنية، إذ أدى خوض الإدارة الأميركية حربها في اليمن، إلى حدّ ما، إلى استنزاف مواردها العسكرية في جبهة ثانوية وغير محسومة النتائج، مقارنة بجبهات استراتيجية وحيوية بالنسبة للإدارة الأميركية، خاصة مع تفاقم تحدّيات تسييج مناطق نفوذها الرئيسية مقابل تمدّد منافسها الصيني، كما أن سعي دولة الكيان إلى تعويم حالة العنف في المنطقة عبر تحويل الساحة اليمنية إلى ساحة حرب بالوكالة بينها وبين إيران والجماعة، عبر تصعيد عملياتها العسكرية في اليمن، لا يعني فقط جر الإدارة الأميركية الى مواجهة عسكرية مع إيران، بل فرض إرادتها على حليفها الأميركي، وفق شروطها السياسية. إضافة إلى ذلك، فإن حرص الإدارة الأميركية على المضي باستراتيجية الضغوط القصوى حيال إيران مقابل إنجاح المشاورات الدبلوماسية حول برنامجها النووي، يقتضي لحصد ثمار هذه السياسة كما يبدو تأجيل معركتها المفتوحة ضد جماعة الحوثي، فضلاً على أن إدارة الملف الحوثي تقتضي تقدير مصالح حلفاء استراتيجيين مؤثرين في الساحة اليمنية.
تتقاطع الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية مع مفاعيل ضغوط الحلفاء في تغيير الاستراتيجية الأميركية حيال جماعة الحوثي، بما في ذلك فشل خيار الردع العسكري، إذ إن الجماعة وإن فرضت علاقتها التحالفية مع إيران تحولها لورقة سياسية للضغط من إيران لانتزاع مكاسب في ملفها النووي، أو إضعافها بالنسبة للإدارة الأميركية لتحجيم نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، فإن القوة العسكرية للجماعة، التي لم تعطّلها الحرب الأميركية، دفعت الإدارة الأميركية مع صعوبة اللجوء إلى خيار تدخل برّي إلى الاستجابة للدبلوماسية العُمانية، وبالطبع السعودية، لتجميد حربها ضد الجماعة. وإذا كان قبول الوساطة العُمانية قد يساهم في تحسين الأجواء التفاوضية الأميركية - الإيرانية التي ترعاها مسقط، فإن التشابك الوثيق ما بين الملف اليمني، سواء من حيث تصعيد الحرب الأهلية أو تداعيات الحرب الأميركية في اليمن على الأمن والمصالح السعودية، دفع الإدارة الأميركية إلى التعاطي مع الجماعة في ضوء تقديرات حليفها، والذي يستند إلى سياسة ترتيب اتفاقيات اقتصادية وأمنية مع السعودية، إضافة إلى مستقبل الملف الفلسطيني، والذي يقتضي خفض التصعيد على حدودها الجنوبية، ومن ثم فإن إعلان اتفاقية وقف إطلاق النار مع الجماعة حقق للإدارة الأميركية غاياتها السياسية، أولاً بتأكيد استسلام الجماعة، وطلبها عبر الوسيط العُماني وقف القصف الأميركي، وهو ما يعني تكريس قدرتها على الردع العسكري ضد الجماعة، إلى جانب تقليص مستويات المخاطر لحلفائها، وأمنياً، تأكيد التزام الجماعة بوقف استهدافها للسفن الأميركية، وهو ما يعني تحوّلها إلى ضامن لأمن السفن الأميركية في أثناء عبورها مضيق باب المندب، ومن ثم تحييد قدرتها العسكرية للإضرار بالمصالح الأميركية، ووضعها في اختبار واقعي لتحقيق ذلك.
وإذا كان مجمل السياسات الأميركية في المنطقة يقوم على تأمين إسرائيل من تهديد إيران ووكلائها، وفي الوقت الحالي، جماعة الحوثي، فإن الخيار المثالي للإدارة الأميركية هو تغيير أدواتها لتحقيق هذه الغاية، والذي يقوم على فصل وسائل الردع بين الطرفين؛ ففي مقابل تمكين الكيان الإسرائيلي من شنّ عمليات عسكرية في اليمن، أي التماهي مع حالة التصعيد وإقرارها سياسياً، يأتي اللجوء إلى التهدئة مع الجماعة، كاستراتيجية مصاحبة، مع تباينات الأدوات فقط، بيد أن خطورة هذه السياسة لا تقتصر على تثبيت الازدواجية الأميركية في إدارة الأزمات السياسية في منطقة الشرق الاوسط، بما في ذلك الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، بل مخاطر فشلها في السيطرة على حليفها الإسرائيلي الذي قد يفضّل المناورة في الساحة اليمنية.
يكشف اتفاق التهدئة مع الولايات المتحدة عن تحوّل في السياسات الراديكالية التي تبنتها جماعة الحوثي بصفتها من قوى معسكر المقاومة، وأيضا في إدارة علاقتها مع الإدارة الأميركية، إذ إن لجوءها إلى خيار التهدئة، بوقف هجماتها في البحر الأحمر مقابل توقف استهدافها يعني إقرارها بالخسائر العسكرية التي تعرّضت لها طوال شهرين من الحرب الأميركية، إلى جانب تأكيد أن استراتيجية خوض حربين في جبهتين رئيسيتين لإسناد المقاومة الإسلامية في قطاع غزّة باتت حرب استنزاف منهكة لمقدّراتها العسكرية، أي مقاومة الهجمات الأميركية في اليمن باستهداف حاملات طائراتها في البحر الأحمر، إضافة إلى معركتها التي تستهدف العمق الإسرائيلي، كما أن اقتراح الجماعة من خلال الوسيط العُماني التهدئة مع الإدارة الأميركية، يجعلها الطرف الأضعف، وهو ما يعني تغييراً في معادلة مواجهة الردع الأميركي؛ كما أن نتائج اتفاقية الهدنة تعني فصل أزمة الملاحة في البحر الأحمر، بتداعياتها الاقتصادية والسياسية، باعتبارها جبهة رئيسية ضد إسرائيل، والأهم ضد مصالح حلفائها الغربيين وعلى رأسهم أميركا، عن حرب إسنادها للمقاومة في قطاع لغزة، وهو ما يعني تحجيم أوراق الضغط على حلفاء إسرائيل، إضافة إلى أن تحييد السفن التجارية والعسكرية الأميركية في البحر الأحمر من استهداف الجماعة، قد يعني وفي ضوء ترابط المصالح الأميركية - الإسرائيلية فشلها في تثبيت الحصار ضد إسرائيل، وإغلاق الممرّات المائية أمام شركاتها على المستويين العسكري والاقتصادي، ومن ثم فإن استجابة الجماعة للضغوط وبالطبع للتحدّيات التي تواجهها قد تضر بقدرتها على إسناد المقاومة في غزّة، وإن كان المحكّ هو قدرتها على استمرار عملياتها ضد إسرائيل في المستقبل، وبالطبع، تعاطيها مع وسائل الردع الإسرائيلي. في المقابل، وفي سياق المكاسب، استطاعت الجماعة كسب نوع من الاعتراف السياسي بسلطتها، من خلال اعتبارها الطرف اليمني في اتفاقية التهدئة، وتجاوز دور السلطة الشرعية، بما في ذلك تأكيد موقعها العسكري والسياسي في السيطرة على الممرّات المائية اليمنية وتأمينها، ما يعني حسم مركز القوة لصالحها.
كما أن سعي الإدارة الأميركية لتجنيب سفنها التجارية الاستهداف في المقام الأول، يتيح للجماعة عقد تفاهمات سياسية واقتصادية مع القوى الغربية، واستثمار ذلك لصالحها، إضافة إلى أن وقف الحرب الأميركية في اليمن يفوّت الفرصة على خصومها المحليين لاستثمار تأثير القصف الأميركي على قدرتها العسكرية، بما في ذلك استئناف حروبها في الجبهات اليمنية. كما أن فصل الجبهتين، أي الجبهة البحرية عن استهداف العمق الإسرائيلي، يتيح لها تحييد أميركا في صراعها مع إسرائيل في هذه المرحلة على الأقل، ومن ثم يمنحها مرونةً في توسيع عملياتها ضدها، وبالتالي، المضي بتكريس دورها الإسنادي قوةً وحيدةً في معسكر المقاومة، إضافة إلى أن وقف استهداف السفن الأميركية في البحر الأحمر يخفّف الضغط على حليفها الإيراني في إدارة ملفها التفاوضي مع الولايات المتحدة، بما في ذلك استمالة السعودية، دولةً متدخّلةً في اليمن، إلى جانب، وهو الأهم، أن الجماعة، وبقبولها التهدئة خياراً تكتيكياً، يعني تأمين نفسها من مصير قوى معسكر المقاومة بضرب مقدّراتها العسكرية وتحجيمها، وأنها استطاعت تفويت الفرصة على إسرائيل، وعلى خصومها المحليين في اجتثاثها.
في الأخير، الخاسر الوحيد من الحرب الأميركية في اليمن هم اليمنيون الذين لا يزالون يواجهون كلفتها المدمّرة، كما أن توافقات التهدئة التي تبني على تقاطعات مصالح الفاعلين، من الحلفاء إلى الوكلاء، وإن طوت فصلاً من التصعيد في اليمن، فإن سعي إسرائيل إلى تحويل الساحة اليمنية إلى جبهة للردع ومقامرة الجماعة قد يؤدّي إلى مسار جديد من العنف في اليمن وفي المنطقة أيضاً.